"نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ" حديث شريف رواه البخاري

الوقت قيمة ثمينة من قيم الإسلام، قيمة يكتنفها أحد الأسئلة المصيرية التي ستواجه الإنسان في عاقبته، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه".

وثمن الوقت قدسي يتمثّل في قسم الله سبحانه وتعالى به حين يقول: "والعصر، إن الإنسان لفي خسر" [ العصر: 103/1-2] هذا أمر معلوم لا يحتاج إلى كبير حجة، ولا كثير إقناع: إن الوقت قيمة أساسية من قيم الحياة التي حرص على تأكيدها الإسلام، والحث على استثمارها..!



لكن نمط حياتنا بعيد - في عمومه - عن التمثيل الأصيل، والصحيح لقيمة الوقت، فواقع الناس في مجتمعاتنا يحدث بغير ما تدعو إليه هذه القيمة الجميلة من قيم الدّين، وسأضرب في هذا المقام مثلاً شهدته:

في أحد الصبّاحات - من سنوات - توجهت وبعض من الرفقاء إلى منطقة تقارب مسافة الساعة بالسيارة، بعيداً عن المكان الذي نقطنه، وانتظرنا الرّجل المقصود في تلك المصلحة، فقيل لنا إنه تعود كل صباح يقضي مصالحه الخاصة قبل مجيئه إلى المكتب.

وحين دخلنا عليه بعد تأخير دام ساعتين كان مساعده مشغولاً بحل الكلمات المتقاطعة، وقد احتل إحدى زوايا الطاولة..!! وقبل أن نستأذن منصرفين شعرت أن الواجب يحتم علي إكمال المتعة على مساعدته بعونه على ما تبقى من كلمات متقاطعة، وقد أعجزته اثنتان ساعدته في حلّهما، وانطلقنا في حال سبيلنا..!

ويا للمفارقة! فبعد أسبوعين قرأت مقابلة صحفية أجريت معه يتحدث فيها عن (أهمية الوقت في الإسلام.!!).

هذا نمط من أنماط تعاملنا مع الوقت: نهدره بإفساد مصالح الآخرين، ثم نتشدق في الحديث عن أهميته!! ولعل الأمة منذ أن بدأ مسيرها يحيد عن خط الزمن الفعلي، تاهت في بيداء مترامية الأطراف ليس لها دروب، ظلّت تبحث خلالها عن الخلاص، والخلاص - لعمري - مائلاً في دقّات الزمن، الخلاص في كلمة ذات أحرف ثلاثة: و.. ق.. ت!

منذ أن دخل علماء الأمة - إلا النزر غير الفاعل - في المهاترات، والبحوثات الغيبية، والميتافيزيقية، وتجادلوا في غير العلوم الطبيعية، قادوا الأمة إلى متاهات الحياة، فلم تعد تستفيق إلى الخط الذي انبلج شعاعه من غار حراء، فأفاض نوراً في أرجاء المعمورة، حتى يكتمل في اللحظة التي يستلم فيها الملك شارلمان ملك الفرنجة عهدية هارون الرشيد، وهي ساعة اخترعها علماء المسلمين في القرن التاسع الميلادي (807م).

إدراك المسلمين الحذق بالوقت / الزمن أوصلهم إلى اختراع الساعة التي أدهشت صناعتها ملكاً أوروبياً كبيراً.. الأمر الذي يشير أن الفكرة الإسلامية لم تكن لتنجح في واقع الحياة لو لم تركب مركب الوقت المقسّم بشكل صحيح..

تدهش أوروبا حينها بالساعة، ومجازاً يدهشون بقيمة الوقت لدى المسلمين.. لكن كيف كان الوضع الآن؟! وضع عكسي بالطبع، لقد تعطلت ساعة المسلمين عن العمل في حين دارت عقارب الساعة الأوروبية في مدارها الزمني بثبات وانتظام..!

تغيرت النظرة الثقافية نحو الوقت، فصار العربي المسلم يقطع وعد الإفرنجي مبرهناً على نواياه في الوفاء بالوعد للمسلم الآخر..!!

إن إفرنجياً لا يلتزم بموعد قطعه يعد شذوذاً عن القاعدة، وإن عربياً لا يتأخر - في المقابل - عن موعده شذوذاً عن القاعدة..!! هكذا انقلب الحال..

انتهكت قيمة الوقت في مجتمعاتنا، فإن شئت لها دليلاً فانظر وأنت تقطع الشوارع في مجتمعاتنا.. انظر تحت المصابيح المنيرة التي يتبدد نورها بالقهقهات الفارغة، والسمرات المكرورة التي انسحب البريق منها فأمست باهتة لا يعمّرها جديد، ولا يؤنسها حديث..! وانظر لتلك المقاهي المكتنزة بالشباب المهدور، والأعمار الضائعة على الأراجيل.. مقاه تغصّ بروّادها الملتزمين.. فتذهب نفسك حسرات على الأوقات المهدورة.. وتسأل: أليس لهذه الأنوار من يعمرها بالأعمال النافعة، المثمرة..؟! ثم سل نفسك: هل كان توماس أديسون يدرك أن عمره الذي أفناه في اختراع المصباح سيتبدد في لعب الورق، وشرب الأرجيلة في المقاهي العربية..؟!

المنطلق الإسلامي يبدأ من قاعدة (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) [ النساء: 4/103].

ولا ينتهي عند أقوال علماء الأمة التي منها:

مقولات بعض الصالحين:

-     "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك".

-     "يا ابن آدم، نهارك ضيق فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمّك، وكذلك ليلتك".

-     "الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك، فاعمل فيه".

ومنهم من قال "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".

ويقول آخر: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".

إنما تمر علينا ملايين الساعات على اختلاف ألوانها، وأشكالها فلا تثير الغيرة في قلوبنا، وإنما تسطر علينا رغبات الخمول والدّعة والتكاسل، مكتفين بتلك الأعمال اليومية الرتيبة..!

تمر الساعة تلو الساعة بينما نجنح للسكون، ونركن للدعة، وحين نهرج، تنفلت الأمثال من معاقلها البليدة، لنقول الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. هل شعرنا ذات مرة أن سيف الوقت قد قطعنا؟!! ولو كنّا نستشعر به لكنا نتألم أشد الألم لمضاء شفرته، وانفلاته من قبضة أيادينا كالمهر الفار بلا رجعة أو كالحلم الذي كان يغرينا بإمكانية أن نعمل لتحقيقه على أرضية الواقع فيصبح ملموساً، لكن دون فائدة (وما لجرح بميت إيلام!!).

* * *

نقف أمام سوانح الوقت، ليتنا تصورناها حوريات كواعب تغرينا..! لكن السوانح بدت كأشباح هلامية ليس لها أثر على جلودنا، على أحاسيسنا.. نحن مثل ما نحن لم يتغير فينا شيء..!

أجل، نفكّر في لحظات الخلوة في الوقت، نعتبر حينها بقيمته، وثراء موروده، لكننا نفتقد إلى الرؤية البينة التي تتجلى أمامنا فكرة غير مواربة تدلّنا على الطريق الفعّال لتحقيق النجاح..

ثمة أناس من بيننا شذوا عن القاعدة، بعد أن أدركوا قيمة الوقت، وليس ذاك فحسب بل عملوا لأجل امتلائه بالجهود العملية المخطط لها سلفاً، فأدركوا النجاح، ولم يكتفوا فرسموا الهدف تلو الهدف مخافة أن يعودوا القهقرى إن هم اكتفوا بتحقيق هدف واحد فحسب.. لقد خافوا أن يهرب الوقت من أياديهم، ويتبلّدوا كما تبلّد غيرهم، وحينها ينهدّ صرح النجاح الذي بنوه لأنفسهم، ويجدون أنفسهم في أرض مستوية لا قبل لهم ببنائها ثانية؛ لأن الوقت أضحى بعيداً عن آمالهم.. أضاعهم بعد أن أضاعوه.. وفقدهم بعد أن ظنوا أنهم وصلوا قمّته، وأن مروره عليهم غداً مرور الكرام، وأنهم أعملوا فيه جهدهم، وأخذوا منه نصيبهم، بينما الوقت في الحقيقة مورد لا ينضب..! ومن وصل إلى قناعة نضوبه، واضمحلاله سيكون هو الخاسر الأكبر!

لقد أصبحت مواعيدنا في كثير من الأحيان خارجة عن ضبط الوقت، وكأننا نفتقد إلى الساعات، وهي تتلامع في سواعدنا، وعلى جدران منازلنا، وفي هواتفنا النقالة، وفي سياراتنا، لكن الضبط الحقيقي كامن في النفس التي لم تمهّد نفسها كي تتماشى مع عقارب الساعة، فتدور معها في دوراتها الستين..!

قيمة عظيمة مهدورة هي قيمة الوقت وإهدارها مناقض للعقيدة الإسلامية التي تتشبث بالوقت وتجعله واحداً من مبادئها السامية، والرفيعة التي يسمو بها المسلم في دنياه وآخرته.

يقول نيلسون مانديلا: إن أكثر شيء يقتلني هو أن أنهض في الصباح فلا أدري ماذا أفعل..!! يقول هذا وقد تجاوز الثمانين من عمره..! فلا شيء يسعده أكثر من جدول يوم مزدحم بالعمل..! لربما ينتابه هذا الشعور لأن شبابه بما يحتويه من طاقات وثّابة ونشاط حيوي، وجسد قوي معافى، كان مقيداً في قارورة السجن، فلم يكن يشبه سوى المارد الذي كبّل بالأغلال كي لا يقود حزب المؤتمر الوطني إلى هزيمة العنصرية.. لكن ما الذي يفعله كثيرون من الشباب الذين يستمتعون بالحرية في هذه المرحلة الفعالة من حياة الإنسان..؟!

في ثقافتنا الكثير من النماذج العظيمة في هذا الشأن وهي مضرب المثل للعمل، ويجسد الحديث الشريف القائل: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" أهم القيم العملية التي تعنى بالعمل واستمراريته في حياة المسلم.. إنما الكثيرون - وهم في أوج شبابهم - ينظرون إلى التقاعد على أنه انتهاء للحياة العملية وبدء مرحلة من الاسترخاء، والخمول والكسل، ولسان حالهم يكرر القول: لقد أدّينا ما علينا وبقي الدور على الأجيال القادمة.. وكأنهم لم يسمعوا الشيخ الهرم الذي كان يزرع، فقيل له: لم تزرع: قال: زرعوا فأكلنا، ونزرع ليأكل غيرنا..!!.. وكان أحرى بهم أن ينظروا إلى التقاعد على أنه مرحلة عملية أخرى تكون الخبرة مهادها، والعقلانية ركيزتها، والجهد عطاؤها.. فالتقاعد الحقيقي عن العمل هو الموت وحده.. فإن شاء الإنسان التعبد فالعمل أسمى العبادات. وإن شاء الاسترخاء فهو يترك نفسه نهبة للكثير من الوساوس والأمراض خفية السبب.. فلا شيء يطيل حياة المرء سوى العمل.. العمل المرتبط بالصالحات من الأعمال بالطبع..

وانظر إلى كثير من الشباب ماذا يفعل الواحد منهم.. قيم أداءه في عمله، راقب يومه العملي كيف يقضيه، وعدد الأعمال التي ينهيها والتي يؤجلها إلى الغد الذي لن يجيء حتى تتراكم في مكتبه الأعمال..!! اعلم أن كثيراً من معرقلات التجديد والتغيير العملي تعود إلى الثقافة السائدة في العمل لكن مسؤولية الأداء الوظيفي الشخصي هي كاهل الموظف، ثم قسّم وقته اليومي بين عمل جاد أو وقت غير مثمر يقتضيه في شتى المصالح أو يركن فيه إلى ما تهواه نفسه..!

ثم تتبع وقته المسائي بعد استيقاظه من قيلولة طويلة مملة - تكمل دورة النوم المتأخر - قيلولة ينشأ العالم فيها آلاف المشاريع الكبرى.. فماذا تجده فاعل.. أين هي مشاويره وما هي مشاريعه..؟! فإذا كان العمل الرسمي بالنسبة إليه معرقلاً - كما يزعم - فأين هي مشاريعه الشخصية التي يمكنه أن يطلق فيها مهاراته وقواه ويدير فيها ولا يدار..؟! ولننصف فئة من الشباب في هذا المقام، أولئك الذين أنشؤوا مشاريعهم الصغيرة أو الكبيرة، فيومهم مقسوم بين نوعين من العمل، وجهدهم موزع إلى ثلاثة أقسام: عمل رسمي، مشروع خاص، ثم وقت خاص للأسرة أو الاصدقاء أو للنفس.. وهؤلاء مثل جميل، حتى إن شعر الواحد منهم أن مشروعه الشخصي يقتضي التقاعد من العمل الرسمي قدّم طلبه الذي لن يعني له سوى تفرغ للمشروع الخاص الذي أصبح قائماً على رجليه..!

أما الشباب الهادر عمره في جلسات مكرورة في المقاهي، أو البيوت، أو جوانب الشوارع، فهم لا يفعلون أكثر من هدر حماس الروح المتحفزة للعمل، وتقييد قدرات الجسد الفوّار بالنشاط، وبشكل عام تكبيل مرحلة الشباب بأغلال ثقيلة الوطء.. وساعة بعد أخرى تنقص من أعمارهم.. يوم وشهر وسنة.. ثم ما هو الناتج من تلك الجلسات..؟! مشاريع، أفكار بنّاءة؟!

إن مجتمعاتنا الناشئة لا تحتاج إلى جلسات طويلة غير مثمرة، ولا إلى سمرات وسهرات غير منتجة، إنما تحتاج إلى مشاريع تخدمها، وأياد تدفع عجلاتها.. وأفكار تؤسس دروب رفعتها ورقيها.. فالمسألة ليست حكراً على ما تمليه الإرادة الشخصية، وإنما على ما تمليه مصلحة الأمة والمجتمع..!

نعم ليس أشد على المرء الناضج الفكر، الذي يدرك قصر عمره الذاهب ثلثه في السبات أن ينهض في صباحه دون أن يدري ماذا يفعل..! وكم هي من صباحات مهدورة تضيع دون عمل.. كم هي أشهر وسنوات تغور فارغة من أي شيء فلا تستحق الذكر، ولا تحتفظ بها ذاكرة الإنسان، اللحظة التي يكنزها العمل وهي وحدها التي تتبوأ مكاناً في الذاكرة..

JoomShaper