د. محمد بديع
تمرّ ثوراتنا تلك الأيام بتحدِّيات كثيرة لا تخفى على أحد، سواء كانت داخلية أو خارجية، والمتربصون بأوطاننا كُثر، ويبذلون جلَّ جهدهم وطاقتهم لإفشال تلك الثورات لأسباب عدة، سواء كانت لإعادة إنتاج النظم السابقة، أو للحفاظ على مكتسباتهم التي حقَّقُوها في ظلِّ النظم الفاسدة السابقة، أو لكرههم المشروع الإسلامي في بعض الأقطار، وبذل أقصى طاقتهم لإفشاله بكل الوسائل غير المشروعة.

الواقع الأليم
بَيْدَ أن التحول الأخطر في هذا المشهد هو انتهاج سبل الإفساد المتعمد من بعض القوى المعادية الثورات لكافة مناحي الحياة؛ لتيئيس الشعب من أهداف الثورة، وإمكانية تحقيقها؛ وذلك بإشاعة عدم الاستقرار في كافة الأرجاء لتحقيق مخططاتهم المشبوهة، ومحاولاتهم المستميتة إعادة إنتاج النظام الفاسد والمستبد.
فالإفساد هو تعمُّد إتيان الفساد مع عقد النيَّة عليه والإدراك لتبعاته، وهو من عظائم الأمور التي قرنها القرآن الكريم مع القتل (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).
والأدهى في الأمر أن بعض القوى السياسية تُعطي بكل أسف الغطاء السياسي للفساد والإفساد بعدم إدانتها الواضحة له، وبعدم التبرُّؤ منه ومن مقترفيه، بل في بعض الأحيان يُبرِّرون لهم ما يفعلون ويختلقون لهم الأعذار.
فما علاقة الثورات التي أسقطت أعتى الأنظمة بسلميَّة أذهلت العالم بما يحدث من تدمير لمقدرات الأمم والشعوب، فهل القتل والحرق والتدمير وترويع الآمنين واستخدام المولوتوف والخرطوش والرصاص الحي من الوسائل السِّلْمِية؟! ومن يتحمَّل إثم إراقة الدماء الزَّكيَّة المحرَّمة في كل الأديان والشرائع (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32)، بل يذهب البعض لأبعد من ذلك بالمتاجرة بتلك الدماء لتحقيق مكاسب خاصة بكل أسف.
ونرى كذلك قطع الطرقات العامة ووسائل المواصلات، ومنع الموظفين من أداء عملهم والمواطنين من قضاء مصالحهم تحت دعاوى متعددة، منها العصيان المدني، فهل العصيان يكون بإكراه المواطنين وإجبارهم على عدم السير في الطرقات العامة، والتنقل بوسائل المواصلات، والاعتداء على حرية المواطنين في أداء عملهم وقضاء مصالحهم؟!
ويعمد البعض إلى الاعتداء على مؤسسات الدولة المملوكة للشعب، وليس لفصيل أو اتجاه، التي يكفل القانون والدستور حمايتها، والتي يجب علينا جميعًا حمايتها وتنميتها وليس حرقها ونهبها، والتشجيع على ذلك ودعمه وتبريره. ويحاول البعض الاعتداء على المؤسسات السياديَّة؛ ظنًّا منه أنه بذلك ينال من سيادة الدولة ورموزها الشرعية، وقد حاول البعض متجاوزًا كل الخطوط الحمراء بحصار أو الاعتداء على بيوت العبادة، بحجَّة المطالبة بالحقوق أو نكايةً في النظام الحاكم، وهذا شيء مرفوض تمامًا فستظلّ مكانة دور العبادة في نفوس الشعب المصري -مسلميه ومسيحييه- في أعلى درجات التقدير والحماية.
ويستخدم البعض سلاح الشائعات الهدَّامة والمغرضة التي تسعى للنيل من كيانات وهيئات وأشخاص بعينهم، غير مدركين أمانة الكلمة ومسؤوليتها وخطورتها، ومتَّبعين ذات الأساليب غير الأخلاقية لتشويه الصورة غير مبالين بحرمة أو حرية شخصية أو تحقق وتيقن قبل إشاعة الشائعة بين الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
ولقد حدَّثنا القرآن الكريم عن بعض أغراض هؤلاء المتربصين والمروِّجِين الشائعات أنهم يبغون الفتنة، وأنهم يخدعون الناس بمعسول كلامهم (يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47).
ويتبنَّى آخرون الاستخدام السيئ لبعض وسائل الإعلام لتسويق بعض المفاهيم المغلوطة، ولمحاولة التأثير في الرأي العام بالتشهير بأفراد ومؤسسات بعينها، وتسويق أكاذيب وافتراءات وتدليس مُتعمَّد، وتبنِّي الدعوة للإحباط من الثورة وإنجازاتها وتشويه كل إنجاز يحدث أو التقليل من شأنه، وإلباس الحق بالباطل، ولَوْي عنق الحقائق والنصوص والتزييف المتعمد لها لخدمة تيارات وأشخاص بعينهم.
كما يسعى البعض ويسعد بإهدار الإرادة الشعبية، ويتعمَّد تسفيهها والتقليل من شأنها، وعدم اعتبارها والاعتداد بها، ويُنصِّب من نفسه قَيِّمًا على الشعب ووَصِيًّا عليه، ويسعى جاهدًا لفرض رأيه حتى وإن كان ليس له ظهير شعبي أو قبول جماهيري.
ويسيء الكثيرون استخدام الحرية ويَبْتَذِلُونها، ويتعدّون كافة الخطوط الحمراء المعتبرة شرعًا وقانونًا تحت ستار أن هذه حرية، ولا يُدركون أن للحرية خطوطًا لا ينبغي تجاوزها عندما تتماس مع حريات الآخرين، وعندما تتعارض مع القانون والشرع والعرف.
كما يُعمِّق البعض حالة التجريف الأخلاقي الذي أحدثتها النظم السابقة في حياتنا، ويستدعي أسوأ ما أفرزته النظم الاستبدادية لتدمير منظومة القيم والموروثات الأخلاقية من ابتذال في الحديث، وتطاول وسب وقذف وافتراء الأكاذيب، بل تحرِّيها ظنًّا منه أنه بذلك يسيء لمعارضيه.
إن جميع المظاهر السابقة وغيرها مما هو من ذات جنسها هي جرائم مكتملة الأركان، ومن قبيل الإفساد في الأرض الذي يُدمِّر ولا يبني، ويهدم ولا يقيم دعائم حقيقية لتقدم الأمم والشعوب (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف: 56).
ويظنُّ بعضهم أنهم بذلك يصلحون وينتصرون للحق زورًا وبهتانًا فأولئك يصدق فيهم قوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (النمل: 24)، فهل بإشاعة الفوضى واستباحة الدماء والأعراض والترويع وإهدار المليارات تقوم الأمم وتُحْفَظ الحقوق وتُزَيَّن الأعمال؟!
بل يستنكف البعض مجرَّد النصح لعدم السير في طريق الإفساد والتدمير، ويدَّعِي زورًا وبهتانًا أنه يُصْلح ويسعى لمصالح المواطنين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 11، 12).
ويحرص آخرون على صناعة الأزمات وتصديرها وتوظيفها لخدمة مآربهم، ويشمتون في أي إخفاق يتعرَّض له الوطن، معتقدين أن ذلك انتصار لهم، غير مدركين أنه إذا خسر الوطن فلا كاسب، وهو ما لن يسمح المخلصون والمحِبُّون بلادهم بحدوثه بإذن الله تعالى.
إن الهدف الأساسي من إشاعة الفوضى والجرائم والأزمات هو تعطيل مسيرة التقدم لبلادنا، لكُرْه بعض القوى للمشروع الإسلامي ومحاولة إعاقته بشتَّى السبل بلا أدنى اعتبار للسِّلْمية والقانون والشرعية والإرادة الشعبية ومصالح الوطن العليا، فيعزُّ على البعض أن تتحقق نهضة الأوطان على يد أنصار المشروع الإسلامي، ويسعون بكل السبل غير المشروعة لتحقيق مآربهم المريضة.

النصر قادم
إن الحق سينتصر في النهاية بإذن الله عز وجل، فالله هو حامي الثورات وإرادات الشعوب، وكلنا ثقة في نصر الله سبحانه إذا حققنا نصره في ذات نفوسنا وواقع حياتنا (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، وعندما نتوحَّد ونلتفّ حول الشرعية ونُعظِّمها ونُعلي شأن الإرادة الشعبية، ونُنحِّي المصالح الخاصة جانبًا، ونُغلِّب شأن المصالح العليا للأوطان (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
وعندما نبتعد عن الخلاف المذموم والتناحر البغيض والتنازع المشؤوم ستتنزَّل علينا رحمات الله تعالى وفيوضاته كما تنزلت أيام الثورات (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
فلنسعَ جميعًا لإرساء قواعد دولة ديمقراطية دستورية حديثة قائمة على أسس المواطنة وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية، والتداول السِّلْمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بلا تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدِّين.

دعوة صادقة
أتوجَّه بدعوة صادقة إلى كلِّ القوى السياسية والشعبية والثورية لسحب أنصارها من الشارع، والتوقف لفترة زمنية محدَّدة عن النزول للشارع، والتفرغ لبناء الوطن واستكمال المؤسسات، ولتحقيق التمايز الواضح والصَّريح بين المخلصين من أبناء الوطن من السياسيين الشرفاء، والمخربين والمتاجرين بدماء شبابنا، ولرفع الغطاء السياسي عن هؤلاء المجرمين الذين يتلذَّذون بإراقة الدماء ويُوغِلُون فيه، ولنساعد بذلك الأجهزة الأمنية المعنيَّة في التفريق بين المصلح والمفسد، والثائر والبلطجي، والسياسي والمجرم، فيصدق فينا هذه الأيام مثل الحديث الشريف: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
فالواجب علينا التَّكاتُف لمواجهة تلك الأخطار للأخذ على يد المخرِّبين المقامرين بمصالح الوطن وبأمنه واستقراره، بل بمستقبله، وفق ما يُقرِّره القانون في ذلك الشأن.
إن موافقة البعض نهج الفساد والإفساد ولو بالصمت عليه هو هدم للثورات وحياد عن طريقها السِّلْمي الذي قامت به وعليه، ومحاولة لتفريغ الثورات من مضمونها، والحيلولة دون تحقيقها أهدافها واستكمال مساراتها المستهدفة.

أدوار واجبة
إن على جميع المواطنين القيام بدورهم لحماية ثوراتهم وبلادهم وشعوبهم، كلٌّ حسب إمكاناته وقدراته ودوره المنوط به، ويأتي في مقدمة هؤلاء العلماء والدعاة وقادة الرأي والفكر؛ لتوعية المواطنين بواجباتهم وحقوقهم والوسائل الواجبة لحماية مقدَّراتهم، وتبيان الصالح من المفسد، والنافع من الضار، والكريم من الخبيث.
كما أن على وسائل الإعلام بمختلف أنواعها أن تُراعِي القواعد المهنية ومواثيق الشرف الإعلامية قبل القانون، والحرص على عدم إثارة الأكاذيب والأراجيف بين الناس، والتحقق من المصادر قبل النشر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
وليكن رائدنا جميعًا قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)، فلنتعاون على ما يُرضِي ربَّنا وكل ما من شأنه رفعة بلادنا وتقدمها ونهضتها، ولنتنافس في حُبِّ الأوطان وتقديم كل ما نستطيع لإعادة بنائها من جديد.
إن أوطاننا في أمسِّ الحاجة لنا جميعًا، ولن تنهض إلا بتكاتفنا جميعًا، فلنسعَ لرضى الله تعالى في كل حركاتنا وسكناتنا (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
ولنتمثَّل الإحسان في كل أفعالنا وأقوالنا، مبتعدين عن الفساد والإفساد والظلم والطغيان وأهلهم وأفعالهم (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)، وليختر كل منا إلى أي الفريقين ينحاز وينتمي ويتمنَّى أن يُحشر معه (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: 28).

د. محمد بديع/ المرشد العام للإخوان المسلمين

JoomShaper