عمر السبع
حلم أم حقيقة؟!
(ارتفعت همسات الأطفال في اختبار نصف العام لمادة العلوم في إحدى المدارس الابتدائية، وهم يتحاورون حول إجابة الأسئلة، خاصة وأن مراقب اللجنة هو الأستاذ رأفت، المعروف بالطيبة والتسامح مع حالات الغش، فهو يغض الطرف دائمًا عن الأطفال بحجة أنهم صغار، ولا يستحقون الرسوب حتى وإن لم يذاكروا.
وفي منتصف اللجنة يجلس التلميذ إسلام، ممسكًا بقلمه، يحاول أن يتذكر إجابة السؤال الثالث، ولكنها غير مكتملة في عقله، وعبثًا حاول أن يسترجع المعلومات المدفونة في عقله، ولكن لا يستطيع.
وفي خضم تركيزه، حانت منه التفاتة إلى صديقيه أحمد وباسل اللذين راحا يتبادلان الإجابات سويًّا، مستغلين طيبة الأستاذ رأفت، وقد أوشكا على الانتهاء من إجابة السؤال الثالث.
وهنا ينظر أحمد إلى إسلام ويقول بسخرية: أما زلت لا تريد الغش يا إسلام؟ لقد انتهينا تقريبًا من إجابة كل الأسئلة، لقد لاحظت ورقتك ولا زلت لم تجاوب السؤال الثالث حتى الآن.
لم يبد على إسلام التأثر من كلام أحمد، وقال بثبات: لا، لن أغش يا أحمد مهما كان الأمر، حتى لو لم أجاوب على هذا السؤال.
بدا التعاطف على وجه باسل وهو ينظر لإسلام قائلًا: لا أعرف لماذا أنت مُصر على عدم الغش؟ يا أخي المدرس لا يرانا، وحتى لو رآنا أنت تعرف الأستاذ رأفت وطيبته، ونحن نغش من أول اللجنة ولم يفعل لنا شيئًا، ثم هل نسيت الجائزة التي وعدك بها والدك إذا حصلت على الدرجة النهائية في العلوم؟ بهذه الطريقة لن تحصل عليها أبدًا! واطمئن، فوالدك لن يعرف أنك حصلت عليها بالغش.
التفت إسلام إلى باسل وخاطبه قائلًا: أنت لا تفهم، الأمر ليس في أن الأستاذ رأفت سيعاقبني، أو أن أبي لن يعرف بما فعلته، الأمر متعلق بما علَّمني إياه والدي، وربتني عليه أمي، أن الغش أمر يغضب الله تعالى، وأن النجاح المبني على الغش نجاح غير حقيقي، ولهذا فأنا لن أغش حتى لو غشت المدرسة بأكملها.
بدت الدهشة على وجه أحمد وهو ينظر لإسلام قائلًا: أنت عجيب يا إسلام، هذه أول مرة أرى فيها شيئًا كهذا، بالفعل أنت شخصية غرييييييبة) [كيف تغرس القيم في طفلك، د.محمد صديق].
طموح المربي
وهنا نسألك أيها المربي الفاضل، وأيتها المربية الفاضلة، هل تحلمون بطفل كهذا الطفل؟
طفل نشأ على القيم الرفيعه، لا يستطيع أحد أن ينزعها منه مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال، "طفل قيمي".
طفل يراقب خالقه ومولاه، يخشى الله ولا يخشى الناس، ولا يفعل ما يخالف قيمه، وإن كان بعيدًا عن أعين الناس، كذلك الطفل الذي تربى على أن يردد كل ليلة إذا أولى إلى الفراش: (الله معي، الله ناظري، الله شاهدي).
إن كان هذا هو طموحك أيها المربي، فهنيئًا لك هذا الطموح، فهو ما تبحث عنه أمه الإسلام وتعلق على مثله الآمال، بعد ما نسي الكثير من المربين أن التربية هي الأمانة الكبرى التي على أكتافها ينشأ جيل الإسلام الذي تنتظر منه الأمة أن يعيد أمجادها ويجدد عزها وسؤددها.
الأمانة العظيمة:
لقد امتنَّ الله على عباده بنعمة الذرية، وقد كان من دعاء المؤمنين: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا} [الفرقان: 74]، والمنن لا تُقابل إلا بالحمد والشكر، ونعمة الذرية لا تُحمد إلا بحسن تربيتها وتنشئتها.
فالتربية ليست فضلًا نمتن به على أولادنا، بل هي أمانة معلَّقة في رقابنا، وهي علامة شكرنا لنعمة الذرية، فإذا ضيعناها نكون قد أهدرنا النعمة وضيعنا الأمانة.
(وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه؛ ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قِبل الآباء) [تحفة المودود، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، (1/242)].
ثروة مهدرة:
وأنت أيها المربَّي الفاضل حين تنظر في عين صغيرك الذي لا يزال يحبو، ألا تسرح بخيالك بعيدًا تحاول استشراف مستقبله بعد عشرين عامًا من الآن؟ فتثور في عقلك مئات التساؤلات: هل سيكون ولدي بارًّا بأبويه؟ متفوقًا في دراسته؟ ذا شأن ومكانة في مجتمعه؟ هل سيتأقلم مع بيئته المحيطة أم سينهزم أمام المشكلات التي ستقابله؟
(هذه الأسئلة الاستشرافية الهامة لا تدور إلا في عقل القليل من الآباء والمربين والمعلمين، ممن يدركون قيمة ما لديهم من كنوز، متمثلة في هؤلاء الأطفال الصغار.
فإن كانت الدول والمجتمعات تتباهى بما عندها من ثروات وكنوز طبيعية، فإن أحق ما ينبغي أن تتباهى به ثروتها البشرية وتراثها الإنساني، فهؤلاء الأطفال هم ثروة أي مجتمع، وهم صانعو مستقبله إن أحسن تربيتهم وأجاد تنشئتهم.
لكن استغلال هذه الثروات البشرية تحتاج إلى عين خبيرة وعقل واعٍ مدرك؛ يعرف كيف يتعامل مع الجواهر الثمينة والدرر المتألقة، فهؤلاء الأطفال هم نتاج تربيتنا وحصيلة غرسنا، وحينما نهتم بهذا الغرس ونرصد له إمكاناتنا وطاقاتنا وأموالنا؛ فسيستوي هذا الغرس على سوقه ليحمل معه طموحات أُمة، لطالما تاقت إلى العزة والمجد والريادة) [كيف تغرس القيم في طفلك، د. محمد صديق].
ورقتك البيضاء
أيها المربي الفاضل، إن أطفالك أشبه ما يكونوا بورقة بيضاء، تنتظر رويدًا حتى يبدأ الأب والأم والإعلام والمجتمع في كتابتها كيفما شاءوا، فإن أحسنا الكتابة فستحفظ هذه الورقة كإضافة للبشرية وقيمة حقيقية، وإن أسأنا فقد ضيعناها وستنضح بما فيها.
فإذا أردت حقًا وبصورة منهجية عملية أن تؤدي أمانة التربية وتحسن رسم ورقتك الصغيرة، فعليك أن تنهل قد استطاعتك من منهج التربية الإسلامية، وتطلع على أحدث الأبحاث النفسية، والبرامج التربوية العملية، على أن يكون ذلك كله ضمن المواصفات القياسية للبرامج التربوية الناجحة والمثمرة، وهي:
(1. الجمع بين علم النفس الحديث وخلاصة التراث الإسلامي:
فقوة البرامج التربوية تنبع من استِقائها من منبعين هاميْن؛ التراث الإسلامي بمنهجه الرائد في التربية، بالإضافة إلى علم النفس الحديث، ونظرياته العلمية المفيدة.
أما التراث الإسلامي فهو غني عن التعريف بما يزخر من تعليمات وتوجيهات ربانية ونبوية، إلى جانب مواقف حيَّة على مرِّ تاريخ الإسلام، فضلًا عن تصور واضح لمجتمع ناهض تحققت فيه معاني تربية الأجيال على الأحلام العظيمة والطموحات الرائدة.
يقول سيد قطب متحدثًا عن منهج الإسلام التربوي: (إنه منهج في التربية عجيب، منهج عميق بسيط، منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة، بالحق وبالصدق، لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع ... فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرًا ويكون فيه الخير كل الخير، وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرًا وتتهالك عليه وفيه الشر كل الشر، وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالمًا آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه، وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه، وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعًا في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راضٍ قرير)( ).
وبجانب هذا التراث الإسلامي الضخم، تنهل هذه البرامج التربوية من معين علم النفس الحديث، بأبحاثه ودراساته وعلومه التي لاشك أنها وصلت لمراحل عميقة في فهم النفس البشرية، وهذا يضمن ولا ريب قوة وموثوقية المعلومة التي نطرحها في هذا الكتاب وغيره من كتب السلسلة، آخذين منها ما كان متفقًا عليه في التراث الإسلامي، أو كان نتاجًا وأبحاثًا ودراسات لعلماء النفس، بحيث تقترب هذه المعلومات من اليقين إن لم تصل إليه.
2. نظرتها الشمولية:
فالبرامج التربوية الجزئية وإن كان لها بعض التأثير الوقتي، إلا أنها لا تعطي الاستغلال الأمثل لهذه الثروة، فالبرامج التربوية التي تركِّز على ناحية دون ناحية؛ تفشل إلى حدٍّ كبير في الوصول إلى نتائج على أرض الواقع، لأن للإنسان حاجات متعددة، ومتطلبات شتى، ولا يمكن التركيز على جانب دون جانب فتميل السفينة رغمًا عنَّا.
إن الإنسان يحتاج في بنائه إلى العديد من المكونات المتشابكة؛ يحتاج لخطاب معرفي وتنشئة دينية، وتربية قيمية، وتدريب سلوكي، وتهذيب للعاطفة، وتقوية للمشاعر الإيجابية، وحطٍّ من المشاعر السلبية، وإنضاج للشخصية لتجاوز تحدياتها.
كما أنه يحتاج إلى تفريغ حاجاته البشرية في صورة مقبولة، وكل ذلك يفرض على البرامج التربوية أن تستطيع أن تخاطب كل أجزاء الإنسان، وتلبِّي جميع احتياجاته ومتطلباته.
3. نظرتها التكاملية:
فمن الخطأ أن يُنظر للإنسان على أنه وحدات مستقلة من الاحتياجات والمكونات، بحيث يتصور انعزال تطور كل عنصر من العناصر بمعزل عن الآخر، فيتصور مثلًا انعزال الجزء المعرفي عن السلوكي، والقيمي عن الشخصي، والمعرفي عن المشاعري ... إلخ.
فهذه النظرة تُضعِف من فاعلية البرامج التربوية؛ لأن الإنسان ليس كالآلة التي صنعها الإنسان، لكن النفس البشرية هي من صناعة الله، والذي قدَّرأن تتداخل فيها المكونات، بحيث لا يمكن تصور وجود عنصر بمعزل عن الآخر، ولا يمكن تربية وتهذيب عنصر دون النظر للآخر، فالإنسان وحدة متكاملة من المشاعر والسلوكيات والأفكار والقيم والاعتقادات، تنصهر في بوتقة واحدة، تمثل الشكل الذي يميز كل واحد منا عن الآخر) [كيف تغرس القيم في طفلك، د. محمد صديق].
لقد كانت هذه الكلمات مقدمة بسيطة عن رحلتنا في عالم الطفولة التي نسعى من خلالها أن نمنح المربي أفضل الوسائل والملكات التي يستطيع بها أن يغرس القيم في نفوس أطفاله.. وللحديث بقية.
أطفالنا والقيم
- التفاصيل