بالتأكيد أيها المربي العزيز لا يوجد طفل في الفضاء إلا في كتب الروايات الخرافية أو في كتب الأساطير.
ولكن ما نعنيه اليوم بطفل الفضاء، هو الطفل في عالمه الخارجي: في المدرسة، في النادي، في الحضانة، عند الجدة، في رحلة مع الأقارب، في المسجد.. فبعد أن غادر الطفل الحفاظات، وبدأ يمشي على قدميه ويتكلم ويلعب؛ أصبح مهيئًا للقاء  العالم الخارجي وأصبح بطبعه الاجتماعي يؤثر ويتأثر مع هذا الفضاء الخارجي.
ونحن نعلم جميعًا أن أول مصدر لثقافة الطفل هو الأب والأم، كما نعرف أن الطفل يقلد ما يراه ويسمعه، لذلك كان لابد أن نكون قدوة لأبنائنا في كل لحظة من لحظات حياتنا ولا يكون الزلل البشري إلا نادرًا وعن غير قصد، وإن حدث ذلك الزلل فلا نهرب بل نواجه الطفل ونتخذ من هذا الخطأ فرصة للتعليم.
ولكن طفلنا اليوم ترك حضانة الأب والأم وأصبح في حضانة المجتمع بأسره، فكيف سيتأثر هذا الطفل بهذا المجتمع؟ وكيف سيتعامل معه وهو بلا شك مصدر رئيسي يكتسب منه الطفل سلوكه؟!
البيئة "الفضاء الجديد"!!:
أيها المربي الفاضل: إن بيئة طفلك تتضمنك وبقية أعضاء العائلة ورفاق اللعب، ومن هم بالجوار، وزملاء الفصل الدراسي والمدرسين، وغرفة تناول الغذاء، وأيضًا تتضمن البيئة فناء المدرسة والتليفزيون والكتب والمجالات والمسجد والنادي وهكذا.
ولكن كيف يتفاعل الطفل مع البيئة المحيطة؟!
أولًا: عن طريق المحاكاة "التقليد":
تلعب مسألة القدوة الحسنة دورًا هامًا في تشكيل شخصية الناشئ، وأهم شيء ينبغي أن يعرفه الآباء والأمهات أن القدوة هي أكبر المؤثرات في حياة الأولاد، إذ أن الأبناء من عادتهم تقليد آبائهم في أخلاقهم وكلامهم وتصرفاتهم وحتى حركاتهم ومشيتهم، بل ويصل الأمر أيضًا إلى التقليد في انفعالاتهم وعواطفهم، وهذا يوجب أن يكون الآباء قدوة صالحة لأبنائهم، حريصين على ألا يصدر منهم ما لا يرضونه لأولادهم.
فكيف يمكن لأب مثلًا أن يربي أولاده على الخلق الحسن وهم يرونه لا يقلع عن سبهم وشتمهم في توجيههم وتأديبهم، وكيف يمكن له أن يؤصل فيهم مبدأ الصدق، وهم يرونه يستخدم الكذب عليهم للإفلات من طلباتهم وحاجاتهم.
ويرتبط بمبدأ القدوة أمر آخر له أثر إيجابي في التربية، ومع هذا يغفل عنه الكثيرون، ألا وهو تقوية علاقة الصغار بالكبار، فإن من الأخطاء الشائعة عند الناس عدم جلوس الصغار مع الكبار ومنعهم من حضور مجالسهم واجتماعاتهم، فإذا كنا نبعد الصغار عن مجالس الكبار، خاصة عند وجود الأهل والأقارب، ونجعل لهم مجالسهم الخاصة، فمتى سيأخذ هؤلاء الصغار حكمة الكبار، ومتى يتصفون بصفاتهم من الجد والاجتهاد والوقار والفكر الصائب والخلق النبيل.
لكن كما أن الطفل يقلدك ويحاكيك، فهو أيضًا يقلد ويحاكي البيئة التي يعيش فيها، فبدلًا من كونه يحاكيك أنت وزوجتك وإخوته فقط؛ أصبح اليوم يحاكي كل المجتمع الذي يعيش فيه فهو يقلد ما يراه أيضًا في مجتمعه.
فعندما يرى الطفل صديقه في الفصل يتكلم بطريقة معينة يقلد الطفل هذه الطريقة، وعندما يرى الطفل مدرسه يفعل فعل معين يحاول أيضًا أن يقلد هذا الفعل، وعندما يرى الطفل مدربه في النادي يلعب بطريقة معينة يحلول الطفل أن يلعب بنفس الطريقة التي يعلب بها مدربه.
(فالأطفال يتعلمون عن طريق التقليد، فقدرتهم على الملاحظة والتقليد من الصفات الرائعة في هذه المرحلة والعلماء يشيرون إلى ذلك بأنها عملية تشكيل وفقًا لنموذج يحتذى به الطفل، والأطفال يتعلمون الكلام عن طريق التقليد والاستماع والملاحظة، ويكتسبون ميولهم أيضًا في الحياة ويتعلمون القيم وحق الاختيار وكذلك عاداتهم عن طريق المحاكاة) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفير، ص(23)].
وإليك بعض الأمثلة على كيفية تفاعل الطفل مع البيئة من حوله:
مثال: دخل الطفل إلى الفصل أول مرة وكانت طبيعة هذا الفصل أنه مشاغب، وكان الطفل في هذا الفصل لا تسمع له كلمة ولا يأخذ حقه أبدًا، حينها بدأ الطفل أن يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها؛ كي يستطيع أن ينال الحاجات الأساسية بالنسبة له.
مثال: ذهب الطفل إلى المسجد فسمع صوت الشيخ الجميل في قراءة القرآن، فيبدأ الطفل في قراءة القرآن مقلدًا صوت الشيخ بنفس الطريقة.
ثانيًا: عن طريق التجريب:
هذه هي الطريقة الثانية التي يتعلم منها الطفل سلوكه... "التجريب".
فإذا ما لمس الطفل طعامًا ساخنًا فهو يعرف أن الطعام الساخن يؤذي أصابعه، فهو يكتسب خبرته عن الطعام الساخن عن طريق التجربة العملية وليس المحاكاة.
عندما ينزل الطفل من على الدرج مسرعًا فيسقط ويتدحرج وتكسر قدمه يتعلم بالتجربة أن هذه السرعة خطأ، وإذا أهمل الطفل المذاكرة ورسب في الامتحان يتعلم من التجربة كذلك.
ومن ثم فإن البيئة تشكل طريقة تعلم الطفل لسلوكه، فالآباء الذين يقدرون التعليم لديهم أبناء ذوو أداء تعليمي بارز، والأسر التي تشجع روح الفريق يلتزم أبناؤها بالتعاون والجد في العمل، والجيران الذين يراعون الوئام والتناغم يلعب أولادهم معًا بمودة.
ما دورك ؟!
الدور مع المحاكاة:
اعلم أيها الوالد (أن التعليم بالإلقاء والتحديث، وكذلك بالمطالعة والقراءة، يفيد في تحصيل المعلومة، ولكن ذلك وحده لا يفيد كثيرًا إذا لم يصاحبه الشرح والتفهيم، وبوسائل الإيضاح وعرض النموذج العملي التطبيقي، وكذلك لابد من رؤية القدوة عمليًا في حياة الطفل حتى تتأكد عنده المعلومة، والمعنى، ويصير لديه القناعة بها وبأهميتها.
فإذا تعارض المعنى النظري الذي حصله الطفل، مع التطبيق العملي الذي يراه حوله، وخاصة من الأشخاص المهمين في حياته، كالوالدين والمعلمين، فإنه يسلك سلوك القدوة العملية، وينحي المعلومة النظرية المخالفة للسلوك، وفي ذلك من الأضرار ما لا يخفى، وأشدها ضررًا أن يعتاد أن يسلك ويعمل غير ما يعتقد ويعرف، وألا يثق بنفع العلم والمعلمين) [العشرة الطيبة، محمد حسين، ص(313].
ولذلك دور الآباء هو:
·          أن يكون الآباء قدوة لأبنائهم؛ لأنهم يحاكون تصرفاتهم.
·   كما يجب على الآباء أن يرشدوا تصرفات أبنائهم الناتجة عن المحاكاة السلبية، وأن يوجهوها وفق إرضاء الله تعالى واتباع منهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
ـ ولتنظر أيها الوالد الحبيب إلى الصحابة كيف ربوا أولادهم بالقدوة ((فعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: (دعاني أبي علي بوضوء فقربته له، فبدأ فغسل كفيه ثلاثًا، قبل أن يدخلها في الوضوء، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثًا، ثم اليسرى كذلك، ثم مسح برأسه مسحة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثًا، ثم اليسرى كذلك.
ثم قام قائمًا، فقال: ناولني، فناولته الإناء الذي فيه فضل وضوئه، ثم شرب من فضل وضوئه قائمًا، فعجبت فلما رآني، قال: لا تعجب، فإني رأيت أباك النبي صلى الله عليه وسلم يصنع مثل ما رأيتني صنعت، فأحببت أن أريكم كيف كان طهور النبي صلى الله عليه وسلم) [صححه الألباني في سنن النسائي، (95)].
فهذا نموذجب للتعليم العملي مع الشرح والتوضيح والرد على التساؤل، مع إشراك الصغير في الأداء) [العشرة الطيبة، محمد حسين، ص(314)].
الدور مع التجريب.
·               أن يعلم الآباء الأبناء أن يتعلموا من تجاربهم.
·               فيعلمونهم أن الألم ناتج عن السلوك السيئ، وأن السعادة ناتجة عن السلوك الحسن.
·     أن يعلم الآباء أبنائهم، أنه ليس المهم فقط إشباع حاجتهم، بل المهم هو إرضاء الله تعالى حتى ولو كان في إرضاء الله تعالى عدم إرضاء الناس.
ـ واعلم أيها الوالد أن المران يصنع الإتقان، فإنك (حين ترى مسيرة فرقة من الجنود خلال عرض عسكري، تذهلك صفوفها المستقيمة وخطواتها الرشيقة وسيرها الخالي من الأخطاء أليس كذلك؟
هل تعتقد أنهم يملكون مقدرة خاصة وبراعة فريدة تؤهلهم لذلك التناغم الحركي؟ أم أن الحقيقة أن هؤلاء الجنود حين بدأوا لم يكن لدى أحدهم من الرشاقة شيء، ولكن من دربهم صبر على تدريبهم كيف يسيروا معًا بطريقة مناسبة وفي تنناغم جميل؟
لقد قضوا الساعات يكررون نفس الخطوات مرارًا وتكرارًا، وربما صرخ بعض الجنود لكثرة التدريب، وربما مل بعضهم من التكرار.
ولكن النتيجة التي استطاع مدربهم تحصيلها من ذلك، هي ذلك التناغم الجميل والعمل المتقن، الذي نتعجب نحن من كماله وجماله.
وبمثل هذه الطريقة يمكن أن تنجح مع أبنائك عن طريق التدريب) [اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري، ص(319)، بتصرف يسير].
وأخيرًا:
(عندما تصدق أفعالك أقوالك فإنك على الطريق الصحيح للتعامل مع من حولك، عندما يتفق لسانك مع لسان حالك فسوف تكون شخصًا يحترمه الناس، وعندما يختلفان فإن رسالتك تزدوج، ولا يعرف الناس كيف يصدقونك) [التهذيب الإيجابي، جان نيلسن وآخرون، ص(26)].
المصادر:
كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك   سال سيفير.
اللمسة الإنسانية    محمد محمد بدري.
العشرة الطيبة            محمد حسين.
التهذيب الإيجابي جان نيلسن وآخرون.

 

مفكرة الإسلام

JoomShaper