في مجال تربية الأولاد، لكل منا طريقته في التعامل مع طفله، ونهره، وفرض القواعد والسلطة عليه بقدر متفاوت من القوة والاقتناع. تستند هذه السلطة، التي تختلف من شخص إلى آخر، بحسب أطباء النفس، إلى دعامتين أساسيتين. وهكذا فإن تعرّف الأهل إلى هاتين الدعامتين يعني حصولهم على فرصة لكي يصبحوا أكثر عدلاً.
هل ثمة في عائلة ميسون ارتداد وراثي تربوي؟ تنتمي هذه المرأة، البالغة 37 عاماً، إلى خانة الأمهات المقتنعات بأنهن لا يتمتعن بسلطة فطرية. تقول: {لا يسعني شيء. فأنا مثل أمي التي كانت مثل جدتي. لطالما مثّل نهر للأطفال، بالنسبة إلى نساء العائلة، اختباراً مريعاً. فحين أرفع صوتي مثلاً على ابني البالغ تسعة أعوام، أشعر بحالة من العجز. فينهره زوجي بدلاً عني. هكذا تجري الأمور...}.
إرث عائلي
كلا، لا تجري الأمور هكذا في الحياة، بحسب المحللين النفسيين. لا يوجد أهل متساهلون أو استبداديون بطبيعتهم، وإنما آباء وأمّهات متكيّفون مع إرث حريّ بهم أن يفهموه ويتخطّوه. وقد كان فرويد من أوائل الذين أشاروا إلى هذا الإرث. في هذا الإطار، يشدّد المحللون النفسيون على أهمية أن ينسلخ كل منا عن سلطة والديه لتحقيق تطوّره الشخصي. هذه المهمة شاقة وغالباً محفوفة بالأفخاخ. فأن يصبح المرء أباً أو أماً يعني العيش والتأقلم مع الطفل الذي كان عليه، والوالدين اللذين حصل عليهما، والإعجاب الذي كنّه لهما، والعتاب الذي يوجّهه إليهما، باختصار مع قيم موروثة نقلّدها و/أو نرفضها.
ذاكرة غير واعية
يعمل هذا الإرث كذاكرة غير واعية تحثّنا أحياناً على وضع استراتيجيات غير مترابطة ومجحفة لكي نثبت شخصيتنا وسلطتنا. في هذا السياق، يساعد المعالجون الأهل على تحديد التصرّفات غير المتّسقة. يستشير عادةً هؤلاء المعالجين نوعان من الأهل: أولئك الذين يكرّرون المخطط الموروث بحذافيره، وأولئك الذين يطبّقون عكس التربية التي تلقّوها. يتيح ذلك كماً واسعاً من الاحتمالات بدءاً من التكرار المطابق إلى رفض النموذج. في الأحوال كافة، يحضّ المعالجون دوماً مرضاهم على اكتشاف إرثهم وفهمه. لا تهدف هذه المهمة إلى تعلّم الانسلاخ عنه، وإنما إلى تحليله ومساءلة النفس.
ما نفع السلطة؟
- تخليص الطفل من قوّته الجامحة
من دون سلطة، لا امتعاض ولا نقص، ومن دون نقص، لا وجود للرغبة. فالنقص هو الذي يدفع بالطفل إلى الحوار، بناء علاقة مع الآخر، التخلّص من حب الذات، تخطّي الذات وتحفيزها.
- حمايته من الخطر
يجب أن يشعر الطفل بأن والديه العطوفين لا يسمحان له بتخطّي الحدود التي وضعوها لسلامته، وإلا سيعرّض حياته للخطر.
- إشعاره بالأمان
عبر النهي، يعزز الطفل ثقته بنفسه ويكتشف بأن والديه يسهران على راحته.
- مساعدته على بناء ذاته نفسياً
غالباً ما ينتاب الأطفال القلق إزاء سلطتهم الخاصة ويعبّرون أحياناً عن حاجتهم إلى السيطرة عبر تكثيف تصرفاتهم السلبية. تساعدهم السلطة بالتالي على الوقاية من هذا الشعور بالقلق وعلى حسن السيطرة على أنفسهم.
- إعداده للحياة الاجتماعية
تحدّد السلطة، بكل ما تتضمنه من محظورات، قواعد الحياة الاجتماعية. فإن كان الطفل لا يتقيد بهذه القواعد في حياته الأسرية، سيجد صعوبةً في تطبيقها في المجتمع.
نماذج تربوية
ثمة نموذجان تربويان شائعان. أولاً، النموذج المتسلّط، وهو نموذج تقليدي وتراتبي، قائم على السلطة والمعرفة ويعتمد على العقوبات الجسدية، النهي المستمر، والتخويف. إن كانت نتائج تربية مماثلة مقبولة ظاهرياً (طفل مجتهد، مهذّب، وحسن الأخلاق)، إلا أن القواعد المفرطة تؤدي ضمناً إلى اضطراب شخصية الطفل ومضاعفة مظاهر القلق وفقدان الثقة بالنفس لديه. ثانياً، ثمة النموذج المتساهل حيث يتّخذ الطفل القرارات كافة تقريباً. في هذا النموذج، كل شيء مُتاح له، ولا شيء مفروضاً عليه. فالطفل الذي يبدو راضياً من الخارج إنما قلقاً من الداخل، يختار لعائلته محتوى الوجبات، مواعيد النوم، البرامج التلفزيونية...
سلطة واعية
حين يكون المرء أباً أو أماً، من المهم أن يعرف كيف ينتقي القواعد التي يريد فرضها. نستطيع بالتالي إعداد قائمة بالمبادئ التربوية التي ورثناها، وتلك التي نعتبرها إيجابية، وتلك التي نبتكرها، وتلك التي نجدها غير مناسبة. نستطيع كذلك الأمر إدراج العوائق كافة التي نُقلت إلينا وراثياً (قلّة الثقة بالنفس، الشعور بالذنب...) والسعي إلى وضع استراتيجيات لتخطّيها. هدف ذلك تطبيق نموذج واع، أي نموذج تربوي للذات يتألف من قناعاتنا الخاصة ويعتقنا من التزامات تدفعنا أحياناً إلى تكرار المواقف والتصرفات رغماً عنا.
سلطة فطرية
نزعات سلوكية
بحسب اختصاصيي الأعصاب، يستقي بعض السلوكيات جزئياً مصادره من مورثاتنا. لا نستطيع القول إن جينات معيّنة تدفعنا بشكل حتمي إلى أن نصبح والدين متسلطين، متساهلين أو واعيين. في المقابل، ثمّة نزعات قد تحرّض على أنواع من السلوكيات، وتصرّفات هشّة.
سلطة ذكيّة
كيف تؤتي السلطة فاعليتها؟
عبر الوقت والتكرار: لكي تترسخ العادات المرغوبة، يجب دوماً تخصيص وقت لها أقلّه في البداية. لنأخذ مثال الطفل الذي يصرخ من دون توقّف عند الجلوس إلى المائدة. عبر التدخّل بانتظام، يتوقّف هذا السلوك. في المقابل، إن لم يُنهَ عن هذا السلوك من وقت إلى آخر، يُخشى أن يتواصل.
عبر التحلّي بالشجاعة: الموافقة دوماً على كل ما يطلبه الطفل أسهل من الرفض. لكن علينا التحلّي بالشجاعة لنفرض رغبتنا بوضوح على الطفل وللحفاظ على حسّ الصرامة لدينا يوماً بعد يوم مهما كان التعب أو الضغوط شديدة. لكن هذه الشجاعة ضرورية أيضاً للأطفال.
عبر الخوض في مواجهات:
لا يمكن تفادي نوبات الاعتراض. يحتاج أطفالنا إلى الخوض في مواجهات لبناء شخصيتهم. يشكّل ذلك جزءاً من قواعد لعبة التربية، لذلك فإن تجنّبها ليس الحل المناسب.
أثر طفيف
ما العمل بالتصرّفات النفسية المكتسبة عبر التقليد؟ لا يؤمن المحللون النفسيون بهذه النظرية التي تفيد بأن للمورّثات دوراً حاسماً إلى حدّ أنها تغدو مسؤولة عن سلوكيات غير منطقية. يؤكّد الأطباء العامّون واختصاصيو الأعصاب أن المورّثات ما هي إلا قوالب تصنّع بروتينات تساهم هي الأخرى في تشكيل الخلايا.
حساسيات جينيّة
بالنسبة إلى أطباء الأعصاب النفسيين، تولّد المورّثات حساسيات. ثمّة احتمال كبير أن تكون لدى الأم التي لا تعرف كيف تفرض سلطتها من دون فقدان ثقتها بنفسها أو الشعور بالذنب، مورّثات من هذا النوع. لكن هذه المورّثات ليست مسؤولة عن سلوكها. قد تؤّثر الجينات في نزعة ما، لكن يجب أن تجد هذه الأخيرة محيطاً {خصباً} لكي تتطوّر.
بين الفطري والمكتسب
باختصار، يؤدّي بعض المورّثات دوراً في استعدادنا المسبق للتسلّط، واللامبالاة... لكن إن لم نتقدّم في محيط يغذّي هذه الاستعدادات المسبقة، لن تستطيع مورّثاتنا التأثير فينا. لهذا السبب ليس لهذه المورّثات دور كبير في تحديد شخصيتنا. يمكن القول إن الصفات المكتسبة (من الأسرة) تحدّد نحو 95% من تصرّفاتنا وتلك الفطرية أي المورّثات نحو 5%. وهكذا نحن من نملك السيطرة على أنفسنا. لذلك يعود الأمر إلينا نحن فحسب في الانعتاق من الصفات الحتمية التي تدفعنا إلى تكرار سلوكيات لا تمت إلينا بصلة. ذلك يعني الانفصال عن ذاكرة ترسّخت خلال طفولتنا لإعادة ابتكار هوية منفردة على أطفالنا أن يتعلّموا تخطيها لاحقاً ليصبحوا بدورهم آباءً وأمهات.
صوت العراق