عمر إبراهيم
من رحمة الله تعالى بنا أنه لم يترك شيئًا إلا وقد أوضحه وبين السبيل فيه، سواء كان ذلك في فرقانه جل وعلا، أو على لسان حبيبه صلى الله عليه وسلم، فقد قرر الله تعالى في سورة الصف حقيقة عظيمة وذلك بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]،أي (لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}[هود: 88]) [تفسير السعدي، (1/858)].
فبهذه الآية العظيمة خير دليل للمربي الذي يتصدر لتربية الأبناء والطلاب، فأن تقول شيئًا لأولادك ثم تأتي بعكس هذا الشيء، فإنك بذلك تستحق الغضب من الله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
العلم يؤكد:
(إن العلماء يشيرون إلى أن التربية عملية تشكيل وفقًا لنموذج يحتذي به الطفل؛ فكما يتعلم الأطفال الكلام عن طريق التقليد والاستماع والملاحظة؛ فهم أيضًا يكتسبون ميولهم في الحياة ويكتسبون القيم والعادات عن طريق المحاكاة، وبما أن الأطفال يُقلِّدون سلوك من حولهم؛ فلابد وأن يكون لنا كآباء ومربين الأثر الأكبر على تعليمهم، وأن نفكر مليًّا في سلوكياتنا وما نقوله وما نفعله، فنحن بالنسبة لهم القدوة) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، د.سال سيفير، ص(23)].
فأنت أيها الوالد الموفق تستطيع أن تكسب ابنك ما تريده من القيم والعادات، من خلال قدوتك الحسنة له، فالوالد يمثل لابنه كل شيء، الأب والصديق، وهو ـ أي الابن ـ يرى في والده المثل الذي يحتذى به، من خلال انتصابك قدوة حية يراها أمامه في كل جوانب الحياة.
ومن أهمية المحاكاة وبروز الوالد كقدوة لابنه الصغير، يتبدى لنا أمر خطير، وهو أنه إذا افتقد الأبناء قدوتهم في آبائهم ومربيهم؛ فالتلقين غالبًا لا يثمر معهم بحال من الأحوال، فضلًا عن أن يكون التلقين في جانب وفعل الوالد في جانب آخر، فنرى أن الوالد يأمر ابنه مثلًا بأن يكون مرتبًا في مكتبه ومكتبته، وهو مع ذلك يرى والده يطيل بحثًا عن كتاب في مكتبته التي أقرب تمثيل لها أنها ركامًا من أوراق وكتب، فأنى لهذا الطفل أن يتعلم الترتب وهو يرى قدوته نموذجًا في الفوضى من خلال نموذج مصغر وهو المكتب أو المكتبة، كثير من الآباء لا يلحظون خطورة هذا الأمر، ومن ثم تراهم يعانون ويشتكون من أبنائهم الذين لا ينقادوا لتوجيهاتهم التي يحثونهم فيها على أن يكون منظمين مرتبين ... إلخ.
إذًا فالواجب عليك أيها الوالد الموفق أن تسعى بكل جهدك ألا تتعارض أقوالك مع أفعالك، فمن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها أي والد هو أن يقول ما لا يفعل، وهذا لم يكن أبدًا من صفات أي من المربين الناجحين.
هارون يعلمنا:
ورد في مقدمة ابن خلدون أن هارون الرشيد أوصى المربي الذي يقوم على تعليم ولده بعدة وصايا، يقول ابن خلدون (ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده، قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه ....أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة) [مقدمة ابن خلدون، (2/284)]، والذي نريد أن نستفيده من هذه القصة أن هارون رشيد لأنه قدوة فيعرف ما هي الصفات التي يجب أن يكون عليها المربي، فلذلك أوصى أستاذ ابنه بهذه الكلمات.
القدوة تصنع النماذج المشرقة:
وهذا مثال عملي ينطق في دنيا الناس، إنه الطفل اليافع ثم الشاب المنتصر الظافر محمد الفاتح رحمه الله، ومن منا لا يعرف محمد الفاتح إنه الشاب الذي فتح الله تبارك وتعالى على يديه القسطنطينية، انظر إليه في كتب التاريخ تنبيك عن أن هذه الشخصية لاشك وراءها مربون فضلاء انتصبوا لها كقدوات، فتشرفت نفسه للحوق بهم والسير على ما ساروا عليه من مكارم الأخلاق والخلال.
(فمنذ أن ولي السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451هـ، كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام، ولذلك نشأ على حب الالتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع، وكان محبًا للعلم والعلماء ومشجعًا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر، بتوجيهات من والده، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم، ممن أشرفوا على رعايته،لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن اسماعيل الكوراني" مشهودًا له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني" والد "الفاتح".
هذه التربية الإسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل "الكوراني"، من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلمًا مؤمنًا ملتزمًا بحدود الشريعة، مقيدًا بالأوامر والنواهي، معظمًا لها) [الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، علي محمد محمد الصلابي، (1/118-119)].
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى أمثال الكوراني حفظه الله، فهذا الرجل لم يستطع فقط أن يخرج ولدًا صالحًا، بل إنه صنع قائدًا ربانيًا استطاع أن يحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فتح القسطنطينية، لما كان قدوة بأفعاله وأخلاقه قبل كلماته.
إشارة!
وهنا يتبين لنا أن القدوة في التربية لا تقتصر على الأب فقط، بل تتعدى ذلك لتصل إلى المعلم في المدرسة، والعم والخال والجد في محيط الأسرة والعائلة.
والخال قدوة:
فهي دعوة مفتوحة الآن ليس للأب فقط، بل لكل من تتاح له الفرصة ليمارس دورًا تربويًا، أن يكون قدوة لمن تحته من الأطفال، وأن يغرس فيهم من طيب الخصال ما استطاع، وأن يرويهم بماء أفعاله الحسنة وأخلاقه الكريمة، قبل أقواله وكلماته، وانظر أيها المربي الفاضل إلى هذه القصة، التي توضح لك أن الخال يمكن أن يكون قدوة، لأبناء وبنات أخته، فيؤثر فيهم، ويعلمهم بل ويصنع أفذاذًا كما فعل هذا الخال العظيم، فهذا سهل بن عبد الله التستري يحكي ويقول: (كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي "محمد بن سوار"، فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك: "الله معي، الله ناظري، الله شاهدي"، فقلتُ ذلك ثم أعلمته.
فقال: قل ذلك كل ليلة سبع مرات، فقلتُ ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودُم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل، من كان الله معه، وهو ناظره، وشاهده، أيعصيه؟! إياك والمعصية) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/110)].
فلله درك يا خال سهل، كم علمت وأبلغت، فأصبحت قدوة لكل مربي يريد أن يربي أولاده وطلابه.
كلمة أخيرة:
إن الولد الذي يرى والده يأمره بأنه عندما يتصل أحد به فيقول له إنه "غير موجود"، لا يمكن أن يتعلم الصدق حتى يلج الجمل في سم الخياط، والبنت التي ترى أمها قاسية في معاملتها، لا يمكن أن تتعلم الرحمة، فالولد والبنت كما أسلفنا يرتبطان بالوالدين فهما يريا فيهما القدوة التي يجب أن يحتذى بهما.
المصادر:
·          إحياء علوم الدين، الغزالي.
·          الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، علي محمد محمد الصلابي.
·          مقدمة ابن خلدون.
·          كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، د.سال سيفير.
·          تفسير السعدي.

 

مفكرة الإسلام

JoomShaper