نجيب كيالي
اعتاد الناس أن يصفوا قلوبَ الأطفال بأنها أحسن مكان للحب. فالحب أبيض وهي بيضاء. والحب عطاء وتسامح وهي مُعطية متسامحة. لكنَّ الأطفال الذين يقول الناس عن قلوبهم كلَّ ما سبق لا يتحدثون عن الحب إلا نادراً. إنه موجود في حياتهم سلوكاً وممارسةً عفوية.
أذكر أننا عندما كنا صغاراً لم نكن نفكر في هذا الأمر إلا قليلاً. كان اهتمامنا بلعبة (الاستغماية) و(عسكر وحرامية) و(كرة القدم)، أكبر من اهتمامنا بمسألة الحب، لكنْ.. ألم تكن هذه الألعاب بحد ذاتها تكشف عن الانسجام والمحبة في خلفيات سلوكنا؟ ألم يكن الحب نفسه يُحرِّكنا ويلعب معنا؟
الحب الطفولي يمتاز بأنه مَرِح ورشيق وخفيف الظل، لكنه يتعكر سريعاً بسبب المنازعات العابرة، ثم يصفو، ثم يتعكر من جديد، حاله كحال السماء في أوائل الربيع!
الكبار يتحدثون عن الحب كثيراً!
يؤلفون له الأشعار
يلحنون له الأغاني
يملؤون به لوحاتهم وتمثيلياتهم!
وكأنه أهم شيء في حياتهم!
لكنهم- في الحقيقة- قلما يحبون!
والمحبون منهم هم الذين لهم قلوبٌ لم تكبر مع أعمارهم.. أي أنها ظلت قلوباً يافعة طرية، وهكذا، فالعلاقة بين الحب والطفولة علاقة وثيقة، إذ إنه يأخذ منها أهمَّ سماته أو مكوِّناته:
{ الصدق في حالتي الرضا والغضب.
{ البعد عن الحسابات النفعية عند إقامة العلاقة مع الآخرين.
{ الحب موجود في دائرة السلوك أكثر مما هو موجود في دائرة الكلام.
لكنَّ عصرنا الحالي غيَّرَ أموراً كثيرة، وطال التغيير موضوعَ (الحب والأطفال)، ومن هذا الموضوع سأتناول جانبين أساسيين هما: (واقع الحب الذي يتبادله أطفال اليوم فيما بينهم)، و(الحب الذي يتلقاه الأطفال من أهلهم)، والحديث مجاله بلادنا العربية، أما البلاد الأخرى فلستُ مطَّلعاً على أوضاع الأطفال فيها.
الحب المتبادل بين أطفال اليوم
قد لا تكون صورة هذا الحب مريحةً للمتابع والمتأمل في بلداننا، بل هي كذلك حقاً.
لو نظرنا اليوم إلى أماكن تجمعات الأطفال كالمدارس والملاعب بأنواعها ومراكز التسلية الجديدة الكثيرة، كصالات الألعاب الإلكترونية، لوجدنا على ألسنتنا كلمة: آه، ومع الآه يصطف أمامنا رتلٌ من علامات التعجب يسألنا ونسأله عن غرابة ما يحدث.
فمنازعات الأطفال حتى الإخوة منهم سجلتْ رقماً قياسياً في التقدم إلى الأمام، بينما سجلت السماحة وبراءة القلب أشواطاً في التراجع إلى الوراء!
أيدي الأطفال التي تتعارك لم تعد طرية كما كانت، بل صارت قاسية متفننة في القسوة!
قاموس الشتائم اتسع كثيراً لدى صغارنا!
ومَنْ سعى لحل نزاعات الصغار وجد نفسه دائخاً حتى ولو كان خبيراً في الخدمة الاجتماعية، وعليه ينطبق المثل السائر: (قاضي الأولاد شنق حالو). هذا القول أظنه صار أكثر ملاءمة لأطفال اليوم من أطفال الأمس.
ونسأل أنفسنا سريعاً: أين حب الطفولة العفوي الذي كان متمثلاً في الممارسة أكثر من الكلمات؟!
كنا ننتظر أن تنتقل عدوى الحب من قلوب الصغار الطاهرة البريئة إلى قلوب الكبار، فإذا بنا نجد أنفسنا أمام عدوى معاكسة!
إنَّ تفسير هذه الظاهرة التي تجعل المرءَ يضع يده على قلبه خوفاً على الطفولة ومستقبلها يكمن في عوامل كثيرة، أهمها:
1- نمو الأنانية في نفوس الصغار بتأثير الأجواء العامة عليهم، وهي أجواء هواؤها مركَّب من (الأنا) والنفعية والمزاجية.
2- مشاهدة الأطفال لأفلام العنف بشكل مبكر، وتحبيب العنف إليهم من خلال الألعاب الإلكترونية أيضاً، حيث يقوم أكثر هذه الألعاب على القتال والمطاردة.
3- التراجع في الأنشطة الثقافية والفنية التي تنمِّي الوجدان، وانحسارُ الفعاليات التي تغذِّي روحَ الجماعة والتواصل، كالمساهمة في إخراج مجلة أطفال أو الاشتراك في تمثيل مسرحية.
الحب الذي يتلقاه الأطفال من الأهل
فئة قليلة من الأهل تقدِّم لأبنائها جرعات من الحب النافع، كما يسقي الفلاح شجرته بمقدار، ويختار للسقاية وقتاً محدداً، فتزهر تلك الشجرة بأزهار ساحرة الألوان، وتزهر قلوب الأبناء بالخير وتتسع فيها مساحات الود.
أما الفئات الأكثر من أهالي الأطفال فقد صار حبهم لأبنائهم نوعاً من التدليل المفرط، والمدح الزائد لمواهبهم المحدودة أو غير الموجودة أصلاً، وإغداقاً للمال في شراء الألبسة والحلوى والألعاب، وفي الاستجابة للرغبات المشروعة وغير المشروعة لهؤلاء الأبناء.
أليس هذا الحب مدرسةً للميوعة والشطط وباباً نفتحه للريح؟ فإذا دخلت الريح بيوتَنا، وأخذتْ أطفالَنا حيث تشاء، وكسرتْ أحلامَنا فيهم بللنا المناديلَ بدموعنا، وقلنا: ما لنا حظ!!
الحب ورقة عمل
قد لا يروق هذا العنوان للقارئ، فالحب- في جوهره- بعيد عن الأوراق والتخطيط، لكنَّ حب الأهل والمربين عامة من الخير له- كما يقول خبراء التربية- أن يكون منضبطاً ومنظَّماً.. أي أنه نوع من أنواع التفكير والعلم أو يكاد أن يكون كذلك..
فالأهل الواعون من الآباء والأمهات يلينون تارة، ويشتدون تارة، يسمحون للطفل باللعب حيناً، ويمنعونه منه حيناً آخر، يؤيدون اقتراحاته الجميلة، ويناقشونه في اقتراحاته الملتوية، وفي كل الأحوال تكون قلوبهم مملوءة بالحب.. الحب الكبير، لكنهم يتحكمون في توجيه حبهم كما يتحكم الربان بالزورق، وكما يتحكم الفارس بفرسه.
بقي أن أقول: إن الحب حديقة الحياة وأعظم ما فيها، وهو ضروري لسعادة الصغار والكبار، وعلينا أن نعمل للإبقاء عليه بكل وسيلة، فهو يوقظ المشاعر ويجلوها قال الشاعر إيليا أبو ماضي:
أيقظ شعورك بالمحبـة إن غفـا
لولا شعور الناس كانـوا كالدمى
أحببْ فيغدو الكـوخ قصراً نيِّراً
أبغضْ فيمسي الكون سجناً مظلما
صحيفة أوان