نستعرض التربية الأسرية ومشاكلها وحلولها من خلال سورة يوسف ، والتي تتجلى فيها الواقعية من خلال أسرة نبوية ، وتظهر فيها مرونة المعالجة للأخطاء التي تعترض أفراد الأسرة ، ونرى طموح الآباء ، وصعود وانحطاط بعض الأبناء ، ونرى المحن والفتن التي تعترض الأسرة ، كما نرى النصر ، والجلوس على سدة الحكم بكل تواضع ، ونرى كيف تهتز أسرة العزيز بالحب الهادر وفي مقابل ذلك نرى الطهر الكامل ، ونرى التربية القرآنية تعرض المشهد بلا تهييج للقارىء في أدق الأمور الجنسية بين الجنسين ، فلا تتحرك المشاعر الهابطة ، وإنما تتفاعل المشاعر العليا في الاستماع وقراءة القصة ، وتلك من معجزة القصص القرآني ، ونرى حسد الأخوة وغيرة الكبار من الصغار ، وارتكابهم خطأ كبيرًا في رمي أخيهم الصغير في الجب للتخلص منه ، ونرى عفو الصغير عنهم في كبره بعزه وجاهه وسلطانه ، فلا ينتقم لنفسه فيعفو ، ويصفح ، مقتديًا بوالده الذي عفا عن إخوته قبلاً ، وهكذا يظهر الحق بعد حياةمريرة للأسرة ، وتستقر عندما يعرف كل أخ فضل أخيه ، ويبتعد الكبار عن حسد الصغار ، ويتعرفون إلى أن سبب ذلك نزغ الشيطان بينهم ، إلى غير ذلك من المواقف التي نستعرضها على وجه الإجمال فيما يلي :
عند قراءة سورة يوسف قراءة تربوية نستلهم النقاط التربوية العملية التالية تحقيقًا لقوله تعالى .
- في بداية السورة : ( لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين ) [يوسف / 7] .
- وفي نهايتها ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثًا يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمة لقومٍ يؤمنون )[يوسف/111] . وهكذا تنسجم بداية السورة مع ختامها ، في أخذ العبر والعظات الاعتقادية والتربوية ، وإليك بعضًا منها :
1 - تسلية وتثبيت قلب سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المؤمنين ، الذي لم يكن يعرف عن يعقوب ويوسف شيئًا ، والمعروضتان في التوراة باللغة السريانية ، لذا جاء التأكيد بنزول القرآن عربيًا ، لإظهار معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بأنه يوحى إليه ، ولتعلم العرب قاطبة كيف تتنزل القصص الإيمانية بلغتهم ، مع عجزهم عن المحاكاة للقرآن . ( الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين )[ سورة يوسف : 1 ، 2 ، 3] .
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : كان اهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله ] . قال القرطبي في تفسره : روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة ؛ وسيأتي تفصيلها . وقال سعد بن أبي وقاص : أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانًا فقالوا : لو قصصت علينا ؛ فنزل : ( نحن نقص عليك ) [ يوسف / 3] فتلاه عليهم زمانًا فقالوا : لو حدثتنا ؛ فأنزل : ( الله نزَّل أحسن الحديث ) [ الزمر / 23] . قال العلماء : وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة ، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرر ، والإعجاز لمن تأمل .
وبذلك يتعلم الطفل المسلم قصص الأنبياء والرسل الواقعية ، بعيدًا عن الخرافة والأساطير التي تعرض الآن في الرائي تحت مسمى ( أفلام كرتون ) ، ويكون الطفل المسلم الوحيد - من بين أطفال العالم - الذي يتعلم قصص الأنبياء والرسل بشكلها الصحيح والسليم ، فيتعلم منها الاعتقاد والسلوك الصحيح ، ويتهيأ منذ الصغر على مقاومة الباطل ، مستمدًا من صمود الأنبياء والرسل منارة يهتدي بها في حياته الطفلية والمستقبلية ، كما تتعلم الأسرة المسلمة كيف تصبر على مواجهة الأحداث .
2 - نلاحظ من بداية السورة قرب الأب من ولده الصغير بحيث يصل لدرجة قص الرؤيا على والده وهذا يدل على قوة العلاقة الاتصالية بين الصغير ووالده ، ثم نرى معرفة الأب لحسد إخوته الكبار ، لذا ينصح ابنه الصغير يوسف بعدم قص الرؤيا على إخوته الكبار : ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيتُ أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بُني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو مبين )[يوسف/4 ، 5 ].
3 - ثم نرى نصح الأب لابنه الصغيرة بتوقع مستقبل النبوة له باصطفاء الله تعالى ، وتعليم الله له تأويل الرؤيا التي سيكون له شأن كبير فيها ، والتي ستكون سببًا لخروجه من سجن المستقبل ، والصغير لا يدري كل ذلك : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليمٌ حكيم )[يوسف/6]
ومن هنا نرى كلما كان الأب قريبًا من ابنه ، حصلت بينهما علاقة قوية ، تمكن الأب من معرفة طبيعة ابنه ومواهبه ، وبالتالي تمكنه من رسم مستقبله بما يتوافق مع طبيعته ، فلا يتعثر في المستقبل . وهذا حصل أيضًا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث توقعت أمه وجده بأن له مستقبلاً رساليًا يقود فيه الأمة .
4 - ثم نرى حسد الإخوة الكبار لأخيهم الصغير المحبوب لقلب والده أكثر منهم ، وتواطئهم على التخلص منه ؛ باقتراحات مختلفة ؛ أعلاها القتل ، وأخفها الاستبعاد للصغير من وجه أبيه : ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عُصبةٌ إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين )[يوسف/8 ، 9 ، 10] .
ونستفيد من تلك الآيات ضرورة كتمان الأب حبه الزائد ، وتفضيله أحد الأبناء على الآخرين ، وأن يشعر جميع الأبناء بعدله واقعًا وحسًا ماديًا ومعنويًا ، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم والد النعمان بن بشير وهو يريد أن يشهده على وهبه لابنه بستانًا ، ولم يهب الآخرين فقال له : [ أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال بلى ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فلا إذن ][رواه الشيخان ].
فرجع الأب عن تفضيله أحد أبنائه متبعًا الهدي النبوي ، فسلمت أسرته من الغيرة والحسد والعقوق ، وعلى الأب أن يبين لأبنائه أن أفضلهم عند الله أفضلهم لديه ، وأحبهم لقلبه ، تحقيقًا لقوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( الحجرات ) .
5 - ثم نرى جلسة أسرية ظاهرها الرحمة وباطنها المكر والتخطيط لبرنامج الخطة في استبعاد الصغير من وجه أبيه ، ظنًا منهم أن يخلوا بأبيهم من بعده ، ونلحظ من التخطيط أنه محكم العرض ، منسجم لما يتناسب مع الصغير وهو الفسحة في البر واللعب الجماعي ، والحب الصادق في ظاهره ومن جميعهم : ( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون )[يوسف/11 ، 12] ومن هنا نرى أهمية لعب الصغير ، فهو المجال الذي يبني فيه جسمه ، ويمتع به روحه ، ويغذي به نفسه فهو خير كله ، وهو مطلب نبوي كذلك ، ليس أدل عليه من لعبه صلى الله عليه وسلم في صغره مع الأطفال ، وسماحه لأنس للعب مع أصدقائه ، وتسليمه على الأطفال وهم يلعبون ، ثم لتلعيبه سبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما أمام الناس وفي البيت .ونلاحظ أمرًا آخر يدعو للتأمل في الكلمة القرآنية وهي كلمة ( لا تأمنا ) التي فيها حكم الإشمام أثناء تلاوتها ، والإشمام ضم الفم عند النطق بالميم دون إظهار حركة الضم عند النطق ، فالتعبير القرآني يدل على اختلاس حركة الضمة ، وكأن النطق يدل على اختلاس الحقيقة في النفوس والتي لا يريد الأبناء إظهارها أمام والدهم ، والله أعلم .
6 - ثم نرى جواب الأب المناسب للعرض الخادع ، ونلاحظ الحوار الأسري يستمر في عرض الأحداث ، وتصويرها ، والحجج القوية من كل طرف : ( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئبُ وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبةٌ إنا إذًا لخاسرون )[يوسف/13 ، 14] ، وهكذا تم لهم ما أرادوه ، وانخدعوا بتدبيرهم وتخطيطهم ، ونسوا مراقبة الله لهم ، وهو الدرس الذي سيتعلمونه فيما بعد
ونستفيد كذلك ضرورة إنشاء الحوار بين الآباء والأبناء ، إذ هو السبيل لتنمية مهارات الأبناء ، كما ينشط الآباء في التفكير في مشاكل الأبناء وحلها ، وأن يدربهم على إقامة الدليل والبرهان ، وأن يتجاوب معهم لنتائج الحوار .
7 - ثم نرى أن يعقوب وقع فيما حذر منه ابنه الصغير يوسف بألا يحدث إخوته برؤياه فيكيدوا له كيدًا ، وذلك ليعلم المؤمن بأن عليه الأخذ بالحيطة ، ولكن قد يأتيه البلاء مما خاف منه ، وخطط لعدم الوقوع منه ، ليلجأ المؤمن في كل أحواله إلى الله ، وأن يسلم لقضائه .
8 - وبعد تمام مؤامرة الإخوة بإلقاء أخيهم الصغير في الجب للتخلص منه ، جاء النصر المبين من الله تعالى للصغير وهو في الجب ، انزل الله عليه الطمأنينة بالعودة إلى إخوته ، ومباشرة الوحي بالنزول على الصغير بأنه في رعاية الله تعالى ، وأن الله تعالى فوق كيد المعتدين حتى لو كانوا إخوته ، الذين نسوا الله في تلك اللحظات ، ونسوا يوم كشف حقيقة خداعهم لأبيهم وأخيهم : ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون )[يوسف /15] .
9 - ثم يبين القرآن الحجج الباطلة عبر دموع التماسيح الكاذبة ، والأدلة المادية المزيفة ، وأمام كل الحجج التي ظاهرها الحق وباطنها الباطل ، نرى موقف النبي يعقوب ، وهو الدرس الأول المستفاد لكل مؤمن ، فيأتي جوابه بالتوكل على الله والاستعانة به على كل تلك الحجج الباطلة : ( وجاءوا آباءهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون )[يوسف/16 ، 17 ، 18] .
ونرى أن الحجج الباطلة ابتدأت مما حذر منه الأب أبناءه ، وذلك حتى يصدقهم أبوهم ، لذلك أحسوا أن حجتهم العقلية ضعيفة : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) فأتبعوه بالدليل المادي القميص المضرج بدماء الكذب ، ونلحظ أن الأب أحس بمكر أولاده ، وإن الأمر كان خطة مبيتة من أولاده : ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا ) ثم يبين أن الأمر يحتاج للصبر الجميل لمواجهة حدث قتل ابنه ، ويظهر أن الله قادر على كشف الحقيقة
وهنا يعلمنا القرآن كيفية مواجهة الأحداث الأسرية والعامة برفع شعار : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) وبذلك تزداد نفس المؤمن قوةً على مواجهة الكرب والحزن والتآمر على العباد ، وضرورة ابتعاد الآباء عن إظهار عنتريات فارغة ، أو تسويفات كلامية ، أو خطب رنانة ، أو تسويد مقالات مهترئة ، فيكشف القرآن منهجاً جديدًا ألا وهو تفويض كشف الحقيقة لله تعالى ، والصبر الجميل بلا ضجر ولا ملل ولا سآمة ، أو إظهار الاستياء من قدر الله تعالى ، لذا يأتي شعار ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ذكرًا يردده المؤمن صغيرًا وكبيرًا ، في حياته اليومية في كل آن ، كلما عرض له عارض أو طارىء .
10 - ثم ترينا الآيات رعاية الله تعالى للصغير المرمي في الجب بيد إخوته ، لا بيد أعدائه ، وترينا الآيات دقائق تفصيلية من قدرة ورحمة الله تعالى ، وتمكينه لعبده ، وأنه في الرعاية الإلهية في كل آن ، وهو هدف إيماني من إيراد القصص القرآني ، كيف يربي القرآن المؤمن بالقصة الواقعية العملية : ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمنٍ بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ، وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا ، وكذلك نجزي المحسنين )[يوسف/19 ـ 20] .
إنه درس إيماني برعاية الله لكل خطوة ، وأن أكثر الناس غافلون عن قدرة وعلم ومشيئة الله تعالى ، فهم أرادوا أمرًا ، والله تعالى أراد غيره ، ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون ) .
11- ثم يذكر القرآن فتنة الشاب المراهق الجميل ، في أعنف مشهد يحصل لشاب وسيم ، أُوتي شطر الحسن ، خلوق بريء ، أمين طاهر عفيف ، فينجيه الله من ذلك المكر ، بأعجوبة دقيقة خفيت على كثير من الناس ، وذلك بفضل لجوئه إلى الله واستنجاده به بقوله : (معاذ الله ) : ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همَّت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )[يوسف/23 ، 24] ، وأتت كلمة ( هيت ) ومخارج حروفها بدءًا من الهاء ومخرجها من الجوف مرورًا بوسط الحلق بالياء ثم الثنايا بالتاء ، ليدل على مدى تمكن حبها منه . ولكن المؤمن لا يخون الله ولا رسوله ولا من ائتمنه على عرضه ، وآواه في بيته . ولقد هم بدفعها عنه ، فرأى برهان ربه : لو أنه دفعها فسوف يستخدم دفعه لها حتى تبتعد عنه من جهة صدرها سيكون دليلاً ضده بأنه هو البادىء ، فلجأ إلى الهروب ، مما أدى لأنت تلقي القبض عليه من قميصه من الخلف ، فيكون ذلك دليل تبرئته من التهمة .
( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قُد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )[يوسف/25 ـ 29] ، ثم ينكشف الأمر في المجتمع ، الذي يتتبع عورات الناس وبخاصة الأسر الحاكمة ، الأمر الذي يدعو كل أسرة إلى الاهتمام بتربية نفسها كبارًا وصغارًا ، وأن وقع الفضيحة ألم وعذاب كبير ، فأعدت امرأة العزيز خطة في استدراج تلك النسوة اللاتي تكلمن عنها ، وكن من طبقتها : ( وقال نسوةٌ في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئاً وآتت كل واحدة منهن سكينًا ، وقالت أخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهنَّ وقلن حاش لله ماهذا بشرًا إن هذا إلا ملكٌ كريم * قالت فذلكن الذي لُمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين )[يوسف/30 ـ 32] ، وبعد أن سمع الفتى ذلك التهديد والوعيد ، إذ كان بامرأة العزيز وحدها ؛ فإذا بالمؤامرة تزداد من تلك النساء جميعًا ، فلا يزداد الشاب المؤمن إلا ثباتًا ، ويلجأ إلى الله في أن يعصمه الله من مكرهن ، وطلب من الله أخف الضررين ، وتأتي استجابة الدعاء مباشرة لعبده المضطر يوسف ـ عليه السلام ـ ، بحرف الفاء الذي يفيد السرعة والمباشرة فورًا : ( فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن )[يوسف/34] : ( قال ربِ السجن أحبُ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم )[يوسف/33 ، 34] ، ثم نرى أن مجلس العزيز بدأ يفكر في الأمر لكي يتدارك ألم الفضيحة بين الناس ، فوجد بعد المداولة : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )[يوسف/35] ، فترينا الآيات أن علاج شغف الحب يكون بالإبعاد بين المتحابين ؛ واليأس من حصول الزواج بينهما
12 - ثم تبين الآيات التربية السجينة للداعية ، وتبين الدعوة إلى الله وعبادته التي خلق الإنسان من أجلها فهي معه أينما ذهب وأينما حل وارتحل ، سفرًا وحضرًا ، سجنًا وحرية ، صحة ومرضًا ، غنى وفقرًا ، وفي كل أحوال المؤمن الزمانية والمكانية يستمر بالدعوة إلى الله ، وما الدعوة إلى الله تعالى إلا دعوة المجتمع والأسر والأفراد ، إلى التربية الصحيحة بعبادة الله وحده ، والاستقامة على منهج الله تعالى وتشريعه ، فيتنظف المجتمع من أدران المخدرات ، والايدز ، ويتخلص المجتمع من حقد المرابين مصاصي دماء الشعوب ، وآكلي ثمرات جهودهم ، ويتطهر المجتمع والأسرة من أكل أموال بعضهم بعضًا بالباطل .
هكذا يعلمنا القرآن عبر قصة يوسف موقفه في السجن : ( ودخل معه السجن فتيان قال احدهما إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنت وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر لا يعلمون * يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ، قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان )[يوسف/36 ـ 41] ، وهكذا عرض يوسف السجين لزملائه في السجن دليل الوحدانية لله تعالى ، وسبق ذلك إظهار نبوءته لهم بنوعية الطعام الذي يأتيهما ، كما قام على خدمتهم بتفسير منامهما وحلمهما ، ويعطي لهما رأيه بكل يقين ، وأن تفسير المنام هو فتوى ، لا يجوز دفعها إلا من المفتي العالم بها .
وبذلك يتعلم الولد أن الثبات على الإيمان قد يدفع ثمنه من فترات حياته ، فيقضيها في السجن في سبيل الله تعالى ، فلا يتذمر لقضاء الله تعالى ، ويستمر في دعوته لله رب العالمين ، ويرى في سجن سيدنا يوسف وسيدنا محمد وأصحابه المؤمنين الصغار والكبار في شعب مكة ثلاث سنين قدوة حسنة .
13 - ثم تأتي قصة رؤيا الملك ، وتبدأ قصة يوسف بالعد التنازلي من البلاء ، ونرى من بداية السورة ووسطها ونهايتها التركيز على علم تفسير الرؤيا ، وأنه وهبي من الله لا كسبي من الإنسان ، وذلك فضل من الله تعالى يعطيه من شاء من عباده .
ففي أولها : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمَّها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )[يوسف/6] .
وفي وسطها : ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث )[يوسف/21] .
وفي نهايتها : ( رب قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث )[يوسف/101] فلنستعرض رؤيا الملك ، وكيف انكشف خطأ امرأة العزيز في الوقت الذي أراده الله أن يظهر : ( وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبع عجاف وسبع سنبلاتٍ خضرٍ وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين * وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصِّدِّيقُ أفتنا في سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبعٌ عجافٌ وسبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأخرَ يابساتٍ لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلَّهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبـًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً ممَّا تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلنَ ما قدمتم لهنَّ إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يُغَاثُ الناس وفيه يعصرون * وقال الملك ائتوني به فلمَّا جاءه الرسولُ قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النِّسوةِ اللآتي قطَّعن أيديهنَّ إن ربي بكيدهنَّ عليم * قال ما خطبكنَّ إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امراة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )[يوسف/43 ـ 53] .
وهكذا يفسر يوسف رؤيا الملك تفسيرًا اقتصاديـًا ، ويعلِّمنا أن نعمة الله قد تتقدم البلاء أو العجز الاقتصادي ، فعلى الدولة والمجتمع والأسرة والفرد أن يتعلم أن ما يرده من نعمة مالية أو غيرها قد تكون لتشمل ما يتأخر من أحداث ، فالإدارة الاقتصادية للدولة والمجتمع والأسرة والفرد مطلوب ، حتى لا يقع العجز الاقتصادي الذي لا يبقي ولا يذر ، ومن هنا وجب على الأسرة أن تربي أفرادها على الإدارة الاقتصادية ، مصداقـًا لقول عمر " اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم " .
كما ندرك أهمية تعبير الرؤيا للصغير والكبير ، والحاكم والمحكوم ، وكما ورد أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يلتفت إلى أصحابه بعد صلاة فجر كل يوم فيسأله أصحابه عن رؤياهم ليفسرها لهم ، حتى أفرد البخاري وغيره باب تعبير الرؤيا ، مما يدل على أهمية الاعتناء بهذا العلم .
(الشبكة الإسلامية) محمد نور سويد