أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد: فلو سألْنا أغلبَ مَن في الأرض مِن العقلاء:
ما رأيكم فيمن يُربي أولاده، أو طلابه، أو مَن هو في تربيته، أيًّا كان، بالطرق والأساليب الآتية:
• بالغِلْظة والشدة.
• وبرفع الصوت. ويا لله كم رفع بعضهم أصواتهم على أولادهم كالصواعق المخيفة! يَظنون أنهم بهذا يُربُّون!
• وبالسبّ والشتم.
• وربما بالدعاء عليهم.
• وبتحْقيرهم والتنقّص منهم.
• وباتهامهم بالغباء والتخلف.
• وبإشعاره لهم بكراهيته لهم.
• وضربهم ضربًا مبرِّحًا، يتجاوز مهمّة التأديب إلى مهمّة التعذيب.
وما النتائج الطبيعية المتوقعة لهذه التربية؟
• هل ستكون هناك احتمالات سلبية لهذه التربية؟ أو احتمالات إيجابية؟
• هل ستكون نتائج هذه التربية: الحُبّ أو الكراهية؟
• هل سيكونون إيجابيين أو سلبيين؟
• هل سيكونون أذكياء أو أغبياء؟
• هل سيكونون أسوياء أو غير أسوياء؟
• هل سيكونون نافعين لأنفسهم وأُسرتهم ومجتمعهم أو بعكس ذلك؟
لو وجّهنا هذه الأسئلة لغالب العقلاء في هذه الدنيا؛ فما جوابهم المتوقع؟
وهل هناك احتمال أن يأتي الجواب إيجابيًا لهذه الأسئلة؟
كلّا، ثم كلّا.
إنه مِن الطبيعي أن تكون النتائج غير طبيعية لهذه التربية غير الطبيعية!
إنّ هذا السلوك المنحرف في التربية والتعامل مع الذرية والأجيال الصاعدة، خطيرٌ جدًّا وشائع! إنه - حقيقةً- صناعةُ الأجيال المشوَّهة، إنه برنامج الإفساد باسم التربية والإصلاح، إنه برنامجٌ مستمرٌّ في المجتمعات بصمتٍ قاتلٍ على أيدي هذا الصنف من الوالدين والمربين!
• وهل لو افترضنا أنّ جُلّ مَن يَسلك هذه المسالك التربوية مُحبٌّ، لا كارهًا، قاصدٌ الخير لهم، لا قاصدًا الشرّ لهم؛ فهل ستكون النتيجة في هذه الحال إيجابية؟ أو ستظَل سلبية كما هي؟
لا شك في أنّ الجواب في هذه الحال سيبقى كما هو، حتى لو أَقسمَ هذا المربي -فاقد التربية- ألفَ قسمٍ أنه يَقصد بتصرفاته وأساليبه التربوية ذلك الخير!
ويقال لهذا الصنف مِن المربين، أو مِن الآباء والأمهات:
• ما الفائدة مِن نياتٍ حسَنة -على حدّ زعمكم-محبوسة في نفوسكم لم يَظهر لها أيُّ أثرٍ في سلوككم!
• وماذا وصَل مِن مقاصدكم الحسَنة -كما تدّعون- لأولادكم!
• بل وماذا علِموا منها عنكم؟ وماذا عرَفوا منها في تصرفاتكم!
إنّ هذه النوايا الحسنة المزعومة مِن وراء هذه التربية، ستَظلُّ مجردَ دعوى يُكذّبها الواقع!
وستأتي ثمار تربيتكم لأولادكم مُتّسقةً مع سلوككم وتصرفاتكم في هذه التربية، لا متّسِقةً مع نواياكم الحسنة المخفية في نفوسكم وقلوبكم-على حدّ زعمكم-!
وإذا علمتم أو أدركتم هذه الحقيقة؛ فهل تتحلّون بالشجاعة وبالتحلي بروح المسؤولية؛ فتتوبون إلى الله مِن أساليبكم هذه في التربية؟
• هل تستغفرون الله عن هذه الجريمة، التي تزعمون أنها تربية!
هل تبادرون إلى التصحيح والتكفير عن السيئات؟
• هل تعتذرون عن ظلمكم واضطهادكم لأولادكم أو طلابكم؟
إنّ مِن أصعبِ الأمور أنْ تتحول عملية التربية والإحسان إلى إفساد وإساءة!
بل قُلْ: إنّ مِن أصعب الجرائم أنْ تُرتكب باسم التربية وباسم الحب!
• كم هو محزِنٌ تفريط هؤلاء الوالدين والمربين في التربية بتلك الأساليب السلبية، حتى إذا كبُر أولادهم ورأوا فيهم ثمارَ التربية النكِدة هذه حزِنوا وولولوا! لكن يقول لهم الحال: لا تتشكّوا الآن مما ترون في أولادكم من نماذج سيئة؛ فهذه هي تربيتكم؛ وهذا هو الذي اخترتم تربيتهم عليه!
• هذه دعوةٌ إلى ضرورة الالتفات إلى هذه الجريمة المخْفية المخيفة!
• دعوة إلى المراجعة والتصحيح!
• دعوة إلى التوبة والأوبة!
• دعوة إلى تَحمّل المسؤولية بجدٍّ وجَدارة!
• دعوة إلى العودة إلى حُكم الله ورسوله وتوجيهات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، في هذا الباب!
• دعوة إلى العمل بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته).
• ودعوة للعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمَجّسانه)!
دعوة إلى الالتفات إلى توجيهات الله وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم للمسلم والمسلمة في حياتهم بصورةٍ عامة، مِن:
• العناية بتصحيح النية في الأعمال كلها، وجَعْلها خالصة لوجه الله تعالى.
• التزام الصدق والأمانة وإبراء الذمة في التصرفات كلها.
• التزام الكلمة الطيبة، والابتعاد عن الكلمة السيئة.
• العلم بأنّ (الكلمة الطيبة صدقة)!
• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾، [سُورَةُ الأَحْزَابِ: 70 - 72].
• ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾، [سُورَةُ الحَجِّ: 23 - 24].
• ولن نُحصي هذه التوجيهات الإلهية والتوجيهات النبوية، سواء في الحياة بعامة، أو في التربية بخاصة. لكن المهم الالتفات إليها، والعناية بها، والتماس الحياة بها، والحياة في ضوئها وفي هُداها.
ألا إنّ طريقك أيها المسلم والمسلمة ليس مجهولًا:
لقد وضّح لنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الطريق، فاستنارَ لنا السبيل، ولله الحمد والشكر كما ينبغي لوجهه الكريم، وكما ينبغي لشكر نعمة دِينه القويم.
أيها الوالدان، أيها المربون:
• أشيعوا الكلمة الطيبة.
• اختاروا المقاصد الحسنة.
• أشيعوا اللطف والحب، لا الغلظة والضرب.
• اصبروا وصابروا.
• اتجهوا لتربية العقول والنفوس الزكيّة المؤمنة بالله.
• كونوا قدوة حسنة، لا قدوةً سيئة.
لتروا ما يسرّكم في الدنيا والآخرة، بإذن الله تعالى.
• لقد أصبحتْ بعض الحالات النفسية والسلوكية السلبية لدى بعض المربين ظاهرةً منتشرة، وينبغي للوالدين والتربويين العناية بها، واستثمار مختلف الطرق والوسائل لمعالجتها.
• وربما كانت بعض الطرق غير المباشرة مؤثّرةً إيجابيًا أكثر مِن المباشرة. ولا شك في أنّ بعض الحالات لا بد من التعامل المباشر معها.
• وعلى الإنسان العاقل - لو طرأ عليه عارضٌ من هذه العوارض النفسية - أن يبادر للأخذ بالخطوات المفيدة في معالِجة الحالة مِن طريقها الصحيحة، دون تردد أو خجل، أو شعور بغضاضة أو نقصٍ في هذه المعالجة وهذا التصحيح، وأنْ يَعلم أنّ من الطبيعي أحيانًا أن تمْرض النفس كما يَمرض الجسد، ولا فرق، وأنه لابد من العلاج!
• ومنهجُ الله يساعد عبدَ الله كثيرًا، السائرَ في طريق هداه، المهتدي بهدْيه.
• وكم من الناس الفضلاء حين قُدِّر عليه شيء مِن هذه الأحوال العارضة، عالجها بأدوية الله الرحمن الرحيم الكريم المنان؛ فصار سليمًا معافى واستمروا في الالتزام بطريق السلامة، إلى أنْ يبلّغهم الله دار السلام بإذنه تعالى.
• إنّ مِن المهم جدًّا لإصلاح الحال والمآل، أنْ يُبادر المربي: الوالدان، والأستاذ، وسائر مَن له ولايةٌ أو مجالٌ في تربيةِ مَن هو في مكانِ التربية، *أنْ يبادروا إلى المراجعة ومحاسبة النفس بشأن أداء واجب التربية بأساليبَ إيجابية*، لا أساليب سلبية، ومواجهة النفس بشجاعةٍ ومسؤولية فيما يتعلق بالاعتراف بما قد يكون عليه حالهم مِن خللٍ أو سلبيات تُعيق أداءهم لواجبهم التربوي بالأساليب والوسائل الإيجابية المناسبة المنتظَرة منهم، العائدة عليهم وعلى مَن هو في تربيتهم وعلى مجتمعهم بالخير والصلاح والاستقامة.
• إنه ما لم يُبادر المربون: مِن والدين وسِواهم إلى استشعار الواجب والمسؤولية، وضرورة تصحيح مساراتهم السلبية في التربية؛ فسيكون ذلك كارثة مدمرة للمجتمعات، يَجني عاقبتها المربون أنفسهم، ويَجني ثمارها النكِدة أيضًا المستَهدفون بالتربية؛ فتَضيع الأجيال؛ فلا يَنفع حينئذٍ اللوم أو الحسرات أو الندم!
إضاءات:
• كيف تغضب أو تَحزن أيها المربي حين لا يَسرّك ولدك الذي لقّنْتَه صباح مساء بأنّه (حمار)، مثلًا؛ أو أيّ حيوان آخر؛ فكيف تريده أن يصير رجلًا!
• كيف تنتظر مِن ولدك السيرة الحسنة؛ وقد قدّمتَ له عكسَها في كل ما مضى من حياته!
• كيف تنتظر مِن ولدك محبةً ووئامًا وقد قدّمتَ له عكس ذلك في كل ما مضى مِن عمره معك!
• كيف ترتجي مِن ولدك فهمًا ونباهةً؛ وقد لقّنْتَه في كل ما مضى مِن عمره أنه: غبيٌّ، بليدٌ، لا يَفهم!
• فهل -بعد هذا كله- يُراِجع الوالدان والمربّون أنفسهم في طريقة أداء مهمتهم التربوية، ويُفتّشوا في أساليبهم ووسائلهم؛ فيتخلّصون مما قد يكون لديهم من تلك السلبيات، التي ذُكرتْ في بداية هذا الكلام، ويَستبدلوا بها ما أرشدهم إليه دِينهم مِن الأساليب والوسائل الإيجابية النافعة؟ اللهم آمين.
• اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا ممن استقامت نيّته وعملُه، واستوى ظاهرُه وباطنه، وصلّ اللهم وسلّم على خاتم رسلك وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.