منى أبوحمور
عمان- حالة من التشتت والضياع تبعد أبناء الجيل عن مسارهم الصحيح، نتيجة لعدم الوعي الكافي بإمكانياتهم وعجزهم عن تحديد رغباتهم وما يفضلونه. هذا الوضع يضعهم في حالة من الفوضى، حيث يفتقدون القدرة على تحديد الأهداف أو اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبلهم وتقرير المصير.
ظهر ذلك التشتت جليا عندما حان الوقت ليتخذ البعض قراراً بشأن ما يرغبون في دراسته في الجامعة أو تحديد مسارهم المستقبلي. فقد بدت حالة التخبط واضحة لدى الكثيرين، وعبر بعضهم عن طموحات ورغبات ذويهم بدلا من أنفسهم، بينما lا يزال آخرون يتخبطون، يسيرون بلا هدف أو وجهة واضحة.
هذا ما يصفه كريم محمد، الذي لاحظ حالة التشتت والضياع الكبيرة التي يعيشها ابنه، حيث لم يتمكن من تحديد رغباته أو ما يفضله عند اختيار تخصصات الجامعة، مكتفيا بما يراه والده مناسباً.
خيبة أمل واستهجان ظهرت على كريم عندما عجز ابنه عن الإجابة على سؤاله: "أين تجد نفسك؟ وإلى ماذا تطمح؟". حينها، أدرك كريم أن ابنه يعيش حالة من الضياع، بلا هدف واضح أو قدرة على تقرير مصيره وتحديد مساره.
لم يكن كريم وحده من لاحظ حالة الضياع؛ فقد أصبح التشتت سمة من سمات الأجيال التي تتبع رغبات ذويها، وتسير وراء "الترند" حتى في اختيار مجالات الدراسة، دون أن يتساءلوا عما إذا كان ذلك يناسبهم أو يتيح لهم تطوير المهارات، وفقاً لشذى سمير التي تواجه المشكلة نفسها مع ابنتها.
حالة الضياع لم تقتصر على البيوت فقط، بل أصبحت جلية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يشارك الكثيرون منشورات مثل: "شو بتنصحوني أدرس؟"، "شو بتنصحوني أشتغل؟"، "شو أكثر مشاريع ناجحة؟". في هذه التساؤلات، يتجاهلون ميولهم ورغباتهم وإمكانياتهم وحتى مهاراتهم. يبقى السؤال: ما الذي شتت بوصلة الأبناء وجعلهم يجهلون طريقهم؟
تشير اختصاصية الإرشاد النفسي والتربوي، الدكتورة سعاد غيث، إلى أن هذا التشتت مرتبط بالمرحلة العمرية المبكرة، مؤكدة على أهمية انتباه الوالدين إلى توجيه أبنائهم منذ الصغر. فمن الضروري أن يصلوا إلى مرحلة المراهقة وهم لا يعانون من التشتت أو عدم التركيز، وأن يكون لديهم القدرة على تقرير ما يريدون لمستقبلهم وفي تقرير المصير.
وتشير غيث إلى أن إغفال الأهل لهذا الجانب في مرحلة تشكيل هوية أبنائهم والإجابة عن أسئلتهم المتعلقة بمن هم، وما يريدون، وإلى أين يطمحون بالوصول، قد يؤدي الى نقص في معرفتهم بأنفسهم، ويفتقدون بذلك اكتساب مهارات التعرف على الذات.
وتعزو غيث هذا الخلل في الغالب إلى غياب البيئات السليمة التي تتيح لهم اكتشاف ميولهم ورغباتهم، بالإضافة إلى نقص المناهج التي تحقق هذا الهدف، وعدم توفر خدمات الإرشاد النفسي والمرشدين الذين ينبغي أن يكون دورهم تعزيز البعد النفسي لدى الطلبة.
وتقول غيث: "إن بروز هذا التخبط وتشتت الأبناء وعدم قدرتهم على تحديد ما يرغبون فيه هو نتاج قصور في الارشاد اللازم"، مؤكدة أن الأسرة هي الحاضنة الأولى للطفل، حيث تمكنه من التعبير عن ذاته والتعرف عليها من خلال المرور بالتجارب، وممارسة الأنشطة، ومعرفة ميوله ورغباته، ومنحه الفرصة لاكتشاف ذاته.
وتزداد صعوبة هذا الأمر، حسب غيث، عندما يمر الطفل بمراحله العمرية من دون أن نسمح له بعيش التجارب، وعدم توفير فرص اكتشاف الذات، وكذلك فرض ميول الأهل عليه. إن تقليص هذه الفرص لا يساعده عند الوصول إلى مرحلة المراهقة في تحديد هويته وما يفضله، مما يؤدي إلى ضياع بوصلته وعدم معرفته بنفسه.
ويترتب على ذلك، بحسب غيث، عدم قدرة الأطفال على اختيار ما يناسبهم أو ما يرغبون فيه، بل يرددون ما هو شائع؛ فإذا كان المعدل مرتفعا، يختارون التخصص العلمي، وإذا كانوا يميلون للحفظ، يختارون الأدبي، دون أن يهتم أحد بميولهم ورغباتهم وطموحاتهم.
ويحتاج الأمر إلى تكاتف بين الأهل والمدرسة والإعلام لزيادة وعي الأجيال في التعرف على أنفسهم وإمكاناتهم، مما يساعدهم على اكتشاف ذواتهم وحماية الأجيال من التشتت، وعدم القدرة على تحديد ما يرغبون في الوصول إليه.
من جهته، يشير التربوي الدكتور عايش النوايسة إلى أن الطلبة عادة ما يمرون بمرحلة يحتارون فيها باختيار التخصص الذي يرغبون بدراسته، سواء في المرحلة المدرسية ضمن النظام الدراسي الجديد (بيتك) الذي تتنوع فيه التخصصات والمسارات، أو في مرحلة اختيار التخصص الجامعي. ولعل مصدر هذه الحيرة يعود إلى أمرين؛ الأول هو طبيعة التخصص نفسه وارتباطه بسوق العمل، والثاني يتعلق بتوجهات الأهل والقيمة الاجتماعية للتخصص.
ويلفت النوايسة إلى أن كل ما سبق يؤثر في توجه الطلبة، حيث تجدهم يختارون تخصصا معينا، ثم ما يلبثون بعد فترة من البحث أن يتحولوا إلى تخصص آخر. ويعود ذلك إلى أنهم لم يكونوا على درجة كبيرة من الوعي عند اختيار هذا التخصص، مما يدفعهم إلى تركه والانتقال إلى تخصص آخر. وهذا التغير يتسبب في مشكلات أكاديمية واجتماعية.
ويؤكد بدوره أن هذا يتطلب من البداية تحديد الاهتمامات والميول والرغبات، التي تشكل أساس التوجه المهني. ويرتبط ذلك بالقدرات الشخصية والمهارات المهنية والشخصية. كل هذه العوامل مرتبطة ايضاً بفرص العمل المستقبلية، التي يجب التفكير فيها بعمق عند اختيار التخصص أو التوجه المهني.
ويقول النوايسة إن الخروج من عملية التشتت للوصول إلى الخيار المناسب يتطلب من الجهات المعنية، سواء كانت مدرسة أو جامعة، القيام بدور فعال من خلال ممارسة عملية الإرشاد الأكاديمي والمهني.
ووفق النوايسة؛ فإن هذه العملية توفر للطلاب فرصا آمنة لمناقشة خياراتهم وظروفهم ضمن بيئة سرية، مما يساعدهم على تكوين صورة شاملة حول التخصص المرغوب، وأهميته، ومدى انسجامه مع قدراتهم وإمكاناتهم. هذا يسهم في تحقيق الأمن النفسي الذي يحتاجه الطالب لاتخاذ القرار المناسب.
يؤكد النوايسة على الأهمية الكبيرة لدور المرشد، حيث يساعد في إخراج الطلبة من حالة التشتت والإحباط إلى حالة إيجابية تجعلهم أكثر تفاعلا مع المحيط. هذا الدور يسهم في مساعدتهم على الوصول إلى الخيار المناسب الذي ينسجم مع واقعهم وقدراتهم واحتياجاتهم.