سحر محمد يسري
عبارة الاستئذان .. وهيئته التي علمنا إياها نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم، كم من أبنائنا يعرفها الآن؟
مازال الكثير من أبنائنا يفتقرون إليها .. كما لاتزال الأبعاد التربوية العميقة لأدب الاستئذان غائبة عن كثير من المربين.
أعزائي الآباء والمربين..
خلق الله تعالى الإنسان اجتماعي بطبعه وغريزته، ميَّال للاجتماع بالآخرينوالتَّعاون معهم وإنشاء الصِّلات الحميمة بهم، وهذه العلاقات الاجتماعية قد أقرّها الإسلام ودعمها بالرّوابط الإيمانية القوية.
وقد نظّمالإسلام هذه العلاقات تنظيمًا دقيقًا ومحكمًا ووضع لها الآداب والضوابط التي تضمن استمرارها بقوة ونقاء داخل الأسرة وخارجها، ومن أهم تلك القواعد الأخلاقية والاجتماعية أدب الاستئذان الذي يجب على الكبار الالتزام به كما يجب عليهم تأديب أبنائهم عليه.
الأدب الضائع:
هذا الأدب الرفيع (أدب الاستئذان) قد يغفل عنه الكثيرون في واقعهم الأسري، مستهينين بما ينشأ عن التفريط فيه من صدمات نفسية، وانحرافات سلوكية للطفل، ظنًّا منهم أن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه الأمور، في حين قرر علماء النفس والتربية أن وقوع عين الطفل على شيء من العورات أو رؤيته لموقف المعاشرة الزوجية بين الوالدين، قد يترتب عليه معاناة نفسية، واضطراب سلوكي لا تحمد عقباه [د.محمد اسماعيل، الأدب الضائع، ص: 128].
كما أكدت الإحصائيات التي أجريت حول أسباب "زنا المحارم" أن أحد هذه الأسباب يرجع إلى ضعف أو انعـدام الرقابة الأُسرية على الأطفال بشكل يسمح لهم بعبور الخطوطالحمراء دون أدنى مُمانعـة من الأُسرة، كاقتحام الغرف بدون استئذان في أي وقت، والتساهل في مسألة النظر إلى العورات بين الصغار بحجة أنهم صغار؛ فيشبوا على هذا التساهل المقيت مما يتناقض مع الحكم التشريعية السامية والتي تهدف إلى حماية الصغار من التنبيه المبكر للغرائز، وتعكير صفو الفطرة، وانحراف السلوك.
القرآن يأمرنا بتأديب الأبناء على الاستئذان قبل الدخول:
فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58].
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب أمر الصغير المميز بالاستئذان قبل الدخول، في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة كشف العورات، حيث جرت العادة بتخفف الناس فيها من الثياب، أما في غير هذه الأوقات الثلاثة، فقد جرى عرف الناس على التحفظ والتحرز، فلا حرج من دخول الصغار بدون إذن حينئذ؛ وذلك لأنهم من الطوّافين الذين يكثر دخولهم وخروجهم، ولا يجد الناس بدًّا من ذلك (محمد نور بن سويد، منهج التربية النبوية للطفل، ص:167).
أما إذا بلغ الأطفال الحلم؛ فعليهم كلما أرادوا الدخول أن يستأذنوا، لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59].
سبب النزول تأصيل للتربية الجنسية للأبناء:
والمتأمل في سبب نزول هذه الآيات الكريمات يتبين له أنّ أدب الاستذان للصغار بمثابة الأساس الذي تنبني عليه التربية الجنسية للأبناء، أخرج ابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار (أسماء بنت أبي مرثد) فقالت يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].
لماذا فصّل القرآن أدب الاستئذان؟
أولًا: احترامًا لخصوصية البيوت:
إنّ البيوت من أعظم نعم الله على الإنسان .. جعلها الله تعالى سكنًا يئوب إليها النّاس لتستريح أجسادهم وتسكن أرواحهم وتطمئننفوسهم، ويأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم لذلك جعلت لها حرمة، والبيوت لاتكون كذلك إلا حين تكون حَرَمًا آمنًا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم.
ثانيًا: نظرًا لأهمية هذا الأدب الإسلامي:
فقد ورد ذكر الاستئذان وآدابه في القرآن الكريم بالتفصيل، حيث حدد الله عز وجل أوقات الاستئذان، والأوقات التي لا يُشرع فيها استئذان، وذلك نظرًا لما يترتب عليه من حفظ العورات واستقرار البيوت ووقاية أفراد الأسرة خاصة الصغار من الانحراف، فهو من أهم الأسباب التي يتخذها الأب لحماية الأولاد داخل البيت وقايةً لهم من احتمال وقوع أعينهم على ما يثيرهم جنسيًا، كما تحميهم من أن تُشغل عقولهم بقضايا متعلقة بالجنس لا يجدون لها تفسيرًا، لضعف عقولهم، وقلة خبرتهم بهذه الشئون.
تدريب الأبناء على الإستئذان، وأهم خطواته:
- يبدأ الوالدان بتعويد الأطفال على الاستئذان منذ سن السادسة، حين يدرك الطفل في هذه السن بعض القضايا المتعلقة بالجنس، ويكون من السهل تكوين العادات لديه مع التوجيه والتدريب والتكرار.
- التزام الوالدان أنفسهما وكل من يخشى انكشاف عورته من أفراد الأسرة بإغلاق باب غرفته بالمفتاح، أو المزلاج ليكون ذلك إعلامًا للأولاد بعدم الدخول، كما أن الطفل الغافل، أو الذي لم يتدرب بعد على أدب الاستئذان لا يمكنه بحال أن يقتحم غرفة قد أوصد بابها، (د.عدنان باحارث، مسئولية الأب المسلم في تربية الولد، ص: 474).
- ويُدرب الولد على طرق الباب دائمًا كلما دخل من باب مغلق، فإن لم يفعل مرة: أُمر بالعودة والطرق من جديد ليتعلم ويتعود.
- أن يطرق الباب برفق دون إصرار: لا نبالغ إذا قلنا أن عنف الأطفال في الطرق على الأبواب وقلة صبرهم ريثما تفتح الأم، يكاد يكون ظاهرة، وهو إن دل فإنما يدل على غياب هذا الأدب عنهم جملةً أو في أكثر تفاصيله، وقد يوصف الطفل بالرعونة وسوء الأدب بسبب هذا المسلك..! عن أنس رضي الله عنه قال: (كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر) [رواه البخاري].
- أن يلقي السلام ثم يستأذن في الدخول: وهذه هي كيفية السلام الصحيحة كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربعي بن نحراش قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال رسول الله لخادمه: أخرج الى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له قل: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي فدخل (محمد الصنقري، موسوعة تربية الأجيال المسلمة، ص: 456، بتصرف).
- أن يذكر اسمه بوضوح فيقول مثلًا: (أنا أحمد)، ولا يقول:(أنا..أنا).
- ولا يدخل فيتكلم قبل أن يستأذن ويلقي السلام: عن كلدة بن الحنبل قال: أتيت النبي فدخلت عليه ولم أسلم، فقال: (ارجع فقل السلام عليكم أأدخل).
- عدد مرات الاستئذان ثلاث مرات فقط ثم يرجع؛ لحديث: (إذا استاذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع) على أن ينتظر بعد الطرق الأول للباب أو الجرس مقدار ركعتين، وبعد الثانية مدة أقل، ثم الثالثة فإن لم يجد جوابًا فليرجع، وهذا التفصيل ندرب عليه الأولاد عمليًا.
- أن يتحول عن مواجهة الباب بعد الطرق، أو الاستئذان: ويتأكد ذلك عند الاستئذان على بيت غير بيته لكي لا تقع عينه على عورة من عورات البيت، إذ قد يسرع الصغار إلى فتح الباب فجأة وقبل الاستعداد لاستقبال الطارق.
- التريث قبل الدخول: نعلم الابن أنه إذا أُذِنَ له فليتريث في الدخول بغير اندفاع أو تهجم.
- أن يرجع إذا طُلِبَ منه الرجوع، أو لم يسمع إذنًا بالدخول بعد الطرقة الثالثة؛ لقول الله تعالى: { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} [النور: 28].
وأخيرًا عزيزي المربي..
إننا بتربية أبنائنا على الاستئذان لا نحميهم فقط من الانحراف، ولكن نمنحهم أدبًا رفيعًا يدل على حياء صاحبه، واحترامه لنفسه بتكريمها عن رؤية ما لا يحب أن يراه عليه الناس أو الدخول عليهم ومفاجأتهموإحراجهم، وطريقة الاستئذان الصحيحة من أحسن ما يعلم الأبناء الصبر، والأناة، وسعة الأفق، ورحابة التصورات، والتماس المعاذير.
كما يعودهم على احترام مشاعر الآخرين وخصوصياتهم داخل بيوتهم، وبالتالي يتعود الطفل أن له نفس الخصوصية، وعلى كل من يعيش معه كبارًا وصغارًا أن يحترمونها بالاستئذان عليه قائلين: (السلام عليكم..أنا بابا..أأدخل)؟
المصادر:
- الأدب الضائع، د.محمد إسماعيل المقدم.
- موسوعة تربية الأجيال المسلمة، نصر بن محمد الصنقري.
- منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور بن سويد.
- مسئولية الأب المسلم في تربية الولد، عدنان حسن باحارث
السلام عليكم .. أأدخل؟
- التفاصيل