غزة- هدى بارود
نفس يملؤها التفاؤل، وتصرفات خارج التوقعات ونشاط مستمر..هذا هو حال "وائل" الذي يرسم على وجهه ابتسامة عريضة لا تفارقه حتى في المواقف المحزنة.
كان "وائل" يعمل "شيف"، في مطعم شعبي، ويتّسم بالحيوية الدائمة، ولذّة ما يصنعه من طعام، مما دفع بأصدقائه لتشجيعه على افتتاح مطعم خاص به، ونفّذ هذا المقترح بعد فترة بسيطة، لينتقل زملاؤه الذين كانوا معه في العمل الأول إلى مطعمه، والسبب أنه شخص إيجابي، والتعامل معه سلس حسبما وصفوه.
تفاؤله المستمر كان يحيّر من يتعامل معه، وكلما كان يسأل عن هذا السر –التفاؤل- قال:" عندما أستيقظ صباحا أُخير نفسي بين اثنين، فإما أن أكون في مزاج جيد، أو أن أكون في عكسه، فأختار الأول، وعندما أقع في مشكلة، يكون أمامي خياران، وهما إما أن أكون ضحية أو أن أتعلم من هذه المشكلة، فأختار بلا تردد الثانية..
خلاصة ذلك أن "وائل" دائما يختار الأفعال الإيجابية، ويحدد لكل موقف يواجهه خيارين، يتحداه بهما، فيستمتع في الحياة، فيأخذ منها بقدر ما يأمل ويفعل، وعلى غرار ذلك فهناك الكثير من الأشخاص ممن يختار الخيارات السلبية، ويُلقي لوم فشله على "الدنيا وحظه".. ولعلّك قارئي العزيز -أحد هاتين الشخصيتين -من أولئك الذين يتمتعون بذاتٍ إيجابية تساعدهم على اختيار الصحيح، أو أنك من السلبيين؟، فإذا كنت من الفئة الثانية – السلبيين- فحاول أن تغير من ذاتك، وإن كنت - إيجابياً- فعزز من إيجابيتك وفقاً للتقرير أدناه:
هكذا أرادت أن تكون!!
وفي الوقت الذي وضع وائل أمام نفسه خيارين، التزمت "فتحية" المرأة العجوز بخيار واحد، وهو "السلبية"، فهي دوماً تقنع نفسها بأن الغير يتعمّد جرحها "فتأخذ على خاطرها"، فلا تحدثهم وتتهمهم بإهانتها، وعلاوة على ذلك تبكي وتتجنب التعامل مع غيرهم مُدعية أن الكل يتعمد الاستهزاء بها!.
الإنسان الذي يضع لنفسه مفهوماً ذاتياً سلبياً ويؤمن به، سيختار المواقف السلبية التي تؤكد فشله وعدم قدرته على العمل، وبالتالي سيكون سلوكه "التجنب" د. الشاعر
ومن المواقف التي مرت بها فتحية وتدل على "سلبية" ذاتها، أن ابنها وزوجته قررا أن يخرجا للعشاء ذات مرة، ولأنها لم تكن في المنزل اتصلا بها ليخبراها بذلك حتى لا تقلق عليهما لمّا تعود ولا تجدهما، لكنها لم تجب على المكالمة وبقيت صامتة.
ولما عاد ابنها وزوجته عاتبته وقاطعته، وغلّظت يمينها متهمة إياه بعدم احترامها، وهو على عكس ذلك تماماً.. الموقف جعلَ الابن يمتنع عن الخروج مرة أخرى خوفا من إغضابها، وبذلك حرم نفسه وزوجته من الخروج، وحملَ في نفسه فكرة سلبية عن والدته، وهي بهذا التصرف أكدت على سلبية اختيارها، إذ كان بإمكانها أن ترى الوجه المشرق من الحادثة، وهو اهتمام ابنها بها، واتصاله بها أكثر من خمس مرات.
لكلٍ "نظرته"..
أما "علاء" و"عادل" فهما توأمان تجاوزا الثانية عشرة من العمر، ويدرسان في ذات المدرسة ولكن كلٌ بفصل مختلف، وأصدقاء مختلفين، ونهج مختلف في الدراسة، فعلاء أكثر مشاكسة من شقيقه، وأكثر ذكاء وخلطة بالمجتمع، في حين تتلخص خبرة "عادل" في الإنترنت، والقرصنة "الهكر"، وهو أكثر هدوءاً وأقل اختلاطا بالناس.. فالأول يعتقد أن الاختلاط في المجتمع يفتح أمامه آفاقاً كثيرة، في حين يرى الآخر أنه مضيعة للوقت وباباً لمشاكل لا تنتهي فلذا يبتعد عنه.
في ذات مرة مرضَ والدهما وساءت صحته، وكان من الضروري أن توفر العائلة نوعا محدداً من الدواء لعلاجه، خاصة وأن مستشفيات القطاع تعاني من فقر في الأدوية نتيجة الحصار.. "علاء" بحث كثيراً عن الدواء، واستعان بأصدقائه وأقاربه واستطاع أن يشتري الدواء من مصر وأدخله القطاع عبر الأنفاق، في حين أن "عادل" لم يحرك ساكناً!!.
"فلسطين" سألت الأول عن سبب سعيه الجاد لشراء الدواء، فأجاب:" كنت واثقا أن والدي سينجو من الموت، وأن أصحابي لن يخذلوني وسأحصل على الدواء مهما كلفني الأمر"..
كانت سعادة "علاء" بالغة لما تعافى والده، في حين انكسر شقيقه الذي التزم البكاء وصار يواسي نفسه ليبرر عجزه عن مساعدة والده قائلاً:" القطاع محاصر، و"إسرائيل" سبب في قتل والدي، وإن كانت المستشفيات لا تحصل على الدواء، كيف سأحصل أنا عليه".
في هذه الحالة فإن علاقات الأخوين الاجتماعية، واعتقادهما كان سببا في اختيارهما، فالأول كان إيجابياً، في حين كان الآخر سلبياً تماماً.
الاعتقاد يصنع "ذاتك"!!
الاختصاصي النفسي د. درداح الشاعر، علّق على الحالات آنفة الذكر، وأكد أن مفهوم الإنسان عن ذاته ونظرته لها هو الذي يحدد اختياره، ففي حالة "وائل" و"علاء" كانت نظرتهما عن ذاتهما إيجابية، في حين خنقت "فتحية" و"عادل" نفسيهما بالخيارات السلبية.
ووفقاً للدكتور الشاعر فإنه في حال اعتقد الإنسان أنه منجز وناجح ومثابر، فهو يكون قد برمج نفسه من خلال الخلايا العصبية على الإنجاز والتفوق والنجاح، بالتالي تكون خياراته دائما تتوافق مع اعتقاداته، وردّات فعله كذلك"، متابعاً:" في حين يعجز صاحب الذات السلبية عن إقناع نفسه بقدراته ومواهبه، يبقى حبيس الخوف من الفشل وعدم الإنجاز".
وقال:"إذاً فإن الإنسان الذي يضع لنفسه مفهوماً ذاتياً سلبياً ويؤمن به، سيختار المواقف السلبية التي تؤكد فشله وعدم قدرته على العمل، وبالتالي سيكون سلوكه "التجنب".
تكليف الأشخاص بالأعمال التي تتناسب مع قدراتهم، ستشعرهم بقدرتهم على أدائها وفق استعداداتهم وحدود قدرتهم، وسينجزونها، ويقبلون بالتالي على المزيد من العمل والإنجاز د. الشاعر
وعن الصفات النفسية التي يمكن تحديد اختيارات الإنسان فيها، أردف بالقول:"إن تعرض الشخص لموقف ما، ولنقل امتحاناً مفاجئاً مثلا، ولم يكن لديه الوقت الكافي للمذاكرة، يكون أمام خيارين إما المحاولة والدراسة، أو الركون والانتظار، فيمكن من خلال توقعات الأفراد وردود فعلهم الأولية معرفة اختيارهم".
فمن يرتب أولوياته ويفكر في خوض الامتحان، ويمسك كتابه، هو الشخص الذي نؤكد أنه إيجابي، ومن على عكسه فهو سلبي حسبما يرى د.الشاعر، داعياً الناس للنظر إلى الجزء المشرق، "فليختر كل منا أن يدرس قدر المستطاع، فيخوض الامتحان ليكون ممن يتحلون بذات إيجابية، أما إن عزفنا عن ذلك ستكون ذاتنا بلا شك سلبية".
وألمح بأن الشخص السلبي عادة لا يكون قادراً على تحديد اختياراته، بل ويعجز عن تخطي العقبات، ودائما يميل إلى العزلة والانطواء، وإذا ما تعرض للفشل يلقي اللوم الكامل على الظروف والأحداث.
صفاتهما..
وأما "الإيجابي" من وجهة نظر د.الشاعر، فهو الذي يعتقد في نفسه الخير، ويميل إلى السعادة ويواجه مشاكله، ويلقي لوم الفشل على ذاته، ويقوي عزيمته بدينه، فالدين الإسلامي يطلب من الشخص أن يكون عاملاً نشطاً ليعلي شأنه، مؤكداً أن العقيدة والمجتمع والنفس أي –الذات- هي العوامل الأساسية في تحديد الخيارات السلبية منها والإيجابية.
فإن كنت عزيزي القارئ واحداً من الشخصيات التالية، عليك أن تعزز إيجابيتك، وتتغلب على سلبيتك اتبع اقتراح د. الشاعر، وهو كالتالي:غيّر فكرتك عن نفسك، فإن كنت تعتقد أنك غير قادر على عمل معين، حاول أن تنجزه واحسب سرعة وجودة عملك، فالإنسان الذي يحمل أفكاراً سلبية هو الشخص الذي يعطل قدراته وإمكاناته، في حين يستثمر صاحب الذات الإيجابية قدراته للتغلب على ضعفه.
ومما لا شك فيه أن دور المجتمع يعزز إيجابية الأشخاص، فالذي يشكره الآخرون يستعيد جزءاً من ثقته بنفسه التي فقدها بطريقة خاطئة وبإحساسه بقلة الحيلة، ويبدأ بالاعتقاد بأنه منجز ويستطيع أن يعمل.
كما تطرق د. الشاعر إلى أن تكليف الأشخاص بالأعمال التي تتناسب مع قدراتهم، ستشعرهم بقدرتهم على أدائها وفق استعداداتهم وحدود قدرتهم، وسينجزونها، ويقبلون بالتالي على المزيد من العمل والإنجاز، لافتا إلى أن تقديم التعزيزات المالية والمعنوية تؤكد ذاته وتعزز إمكاناته أمام الآخرين.
وكشخصية يمكن ضرب المثل في إيجابيتها كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الذي كان يحمل الكثير من الأفكار السلبية عن الإسلام قبل دخوله فيه، ولما تعرف عليه وآمن به حمل الكثير من الأفكار الإيجابية، وبعد أن كان قاسياً الكل يهابه، أصبح عادلاً ورغم مكانته، والكل يرغب بمصاحبته.
"السلبية" و"الإيجابية".. برمجة حياة فأيّهما تختار؟!!
- التفاصيل