الشيخ محمد حسين
الناظر فيما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الحج، يجد مجالاً خصباً من الدروس والتوجيهات والتعاليم والأحكام، بالإضافة إلى أساليب تعليمية وتربوية عديدة، على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة، لكنها كانت شاملة، ونود هنا أن نقف عند بعض الأحاديث النبوية الشريفة، لنستخلص منها ما يفيد في التأسي والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الأساليب التعليمية، التي منها التعليم بالقدوة والمناقشة ومراعاة الفروق الفردية، واستخدام الوسائل المعينة، مع التأكيد على أن الأمر ليس محصوراً في الأحاديث الواردة، وإنما هي عينة، تشمل الآتي:
فالرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم علَّم المسلمين الحاضرين واللاحقين بالقدوة، فعن أبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع جَابِرًا يقول: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمى على رَاحِلَتِهِ يوم النَّحْرِ، وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذه" (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً ).
ومن الأحاديث الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم التي تبين تفضيل التأسي به صلى الله عليه وسلم في أداء مناسك الحج، من خلال ممارسته عليه الصلاة والسلام لشعائرها، ما روي عن جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ عن أبيه أنهم سألوا عن حِجَّةِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال بيده فَعَقَدَ تِسْعًا، فقال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في الناس في الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كلهم يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا معه حتى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْر،ٍ فَأَرْسَلَتْ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قال: اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي.
فَصَلَّى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حتى إذا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ على الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بين يَدَيْهِ، من رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذلك، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذلك، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذلك، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بين أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وهو يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وما عَمِلَ بِهِ من شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ.
فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لك، وَأَهَلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّونَ بِهِ، فلم يَرُدَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه، وَلَزِمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ.
قال جَابِرٌ رضي الله عنه: لَسْنَا نَنْوِي إلا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حتى إذا أَتَيْنَا الْبَيْتَ معه اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إلى مَقَامِ إبراهيم عليه السَّلَام، فَقَرَأَ{ وَاتَّخِذُوا من مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} فَجَعَلَ الْمَقَامَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أبي يقول: ولا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ هو الله أَحَدٌ} {وَقُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ من الْبَابِ إلى الصَّفَا، فلما دَنَا من الصَّفَا قَرَأَ{إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ اللَّهِ}.
أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عليه، حتى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَه، وقال: لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ له، له الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بين ذلك، قال مِثْلَ هذا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلى الْمَرْوَةِ حتى إذا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حتى إذا صَعِدَتَا مَشَى حتى أتى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ على الْمَرْوَةِ، كما فَعَلَ على الصَّفَا، حتى إذا كان آخِرُ طَوَافِهِ على الْمَرْوَةِ، فقال: لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لم أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كان مِنْكُمْ ليس معه هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَقَامَ سُرَاقَةُ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلِعَامِنَا هذا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الْأُخْرَى، وقال: دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ ...". (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي)
ومن أساليبه التعليمية صلى الله عليه وسلم في الحج تعبيره عن مقاصده بالعمل والملاحظة، عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَدِمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فقال الْمُشْرِكُونَ: إنه يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وقد وَهَنَهُمْ(1) حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ(1)، وَأَنْ يَمْشُوا ما بين الرُّكْنَيْنِ، ولم يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلا الْإِبْقَاءُ عليهم". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب كيف كان بدء الرمل)
فرد الرسول صلى الله عليه وسلم على أقاويل المشركين التي طعنت في صحة المسلمين وقوتهم، تمثل بالهرولة بين الركنين في السعي بين الصفا والمروة، وذاك أبلغ من الاقتصار على الرد اللفظي، ودحض الحجة به.
وتبرز الأحاديث الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم عنايته في مراعاة التيسير ورفع الحرج والفروق الفردية، ومن تلك الأحاديث ما روي عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو ابن الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فقال: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قبل أَنْ أَذْبَحَ، فقال: اذْبَحْ ولا حَرَجَ، فَجَاءَ آخَر، فقال: لم أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قبل أَنْ أَرْمِيَ، قال: ارْمِ ولا حَرَجَ، فما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن شَيْءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: افْعَلْ ولا حَرَجَ". (صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها).
وعن عَبْدَ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي الله عنه حدثه، أَنَّهُ شَهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يوم النَّحْرِ، فَقَامَ إليه رَجُلٌ فقال: كنت أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قبل كَذَا، ثُمَّ قام آخَرُ، فقال: كنت أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قبل كَذَا، حَلَقْتُ قبل أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قبل أَنْ أَرْمِيَ، وَأَشْبَاهَ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افْعَلْ ولا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، فما سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عن شَيْءٍ إلا قال: افْعَلْ ولا حَرَجَ". (صحيح البخاري ، كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة).
وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْجَمْرَةِ وهو يُسْأَلُ؛ فقال رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ نَحَرْتُ قبل أَنْ أَرْمِيَ، قال: ارْمِ ولا حَرَجَ، قال آخَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ حَلَقْتُ قبل أَنْ أَنْحَرَ، قال: انْحَرْ ولا حَرَجَ، فما سُئِلَ عن شَيْءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: افْعَلْ ولا حَرَجَ". (صحيح البخاري، كتاب العلم، باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار).
وعن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قِيلَ له في الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فقال: لَا حَرَجَ". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا)
ومن أساليب التيسير في الحج الجمع بين الصلاتين بعرفة: فعن سَالِم أَنَّ الْحَجَّاجَ بن يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه: كَيْفَ تَصْنَعُ في الْمَوْقِفِ يوم عَرَفَةَ؟ فقال سَالِمٌ: إن كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ (3) يوم عَرَفَةَ، فقال عبد اللَّهِ بن عُمَرَ: صَدَقَ؛ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في السُّنَّةِ، فقلت لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذلك رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال سَالِمٌ: وَهَلْ تَتَّبِعُونَ في ذلك إلا سُنَّتَهُ". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين).
ومن وجوه العناية بالتيسير على الحجاج قصر الخطبة بعرفة: عن سَالِمٍ قال: كَتَبَ عبد الْمَلِكِ إلى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابن عُمَرَ في الْحَجِّ، فَجَاءَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه وأنا معه يوم عَرَفَةَ، حين زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ(4)، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ(5)، فقال: ما لك يا أَبَا عبد الرحمن؟! فقال: الرَّوَاحَ(6) إن كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قال: هذه السَّاعَةَ؟ قال: نعم، قال: فَأَنْظِرْنِي حتى أُفِيضَ على رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حتى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أبي، فقلت: إن كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى عبد اللَّهِ، فلما رَأَى ذلك عبد اللَّهِ، قال: صَدَقَ". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب التهجير بالرواح يوم عرفة).
ومن وجوه التيسير في الحج الترخيص للمريض بالطواف راكباً، عن أُمِّ سَلَمَةَ قالت: "شَكَوْتُ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، قال: طُوفِي من وَرَاءِ الناس وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إلى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بالطور وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ". (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب إدخال البعير في المسجد لعلة).
ومن أساليب الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم التعليمية في الحج، التعليم بالسؤال والمناقشة، وذلك واضح فيما رواه ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ الناس يوم النَّحْرِ؛ فقال: يا أَيُّهَا الناس؛ أَيُّ يَوْمٍ هذا؟ قالوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قال: فَأَيُّ بَلَدٍ هذا؟ قالوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قال: فَأَيُّ شَهْرٍ هذا؟ قالوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قال: فإن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فقال: اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بَلَّغْتُ، قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَوَالَّذِي نَفْسِي بيده إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى).
والرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ينوع الخيارات في الحج ويعددها، عن مُحَمَّدِ بن أبي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بن مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ(7) من مِنًى إلى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ في هذا الْيَوْمِ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ(8) فلا يُنْكِرُ عليه، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فلا يُنْكِرُ عليه". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة)
ومن شواهد وضع البدائل وتنويع الخيارات؛ تنويعه النسك في الحج، ففي صحيح البخاري يرد تحت بَاب التَّمَتُّعِ وَالْإِقْرَانِ وَالْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لم يَكُنْ معه هَدْيٌ حديث عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: خَرَجْنَا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نُرَى إلا أَنَّهُ الْحَجُّ، فلما قَدِمْنَا، تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم من لم يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ من لم يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لم يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَحِضْتُ، فلم أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فلما كانت لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ(9)، قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ يَرْجِعُ الناس بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أنا بِحَجَّةٍ، قال: وما طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قلت: لَا، قال: فَاذْهَبِي مع أَخِيكِ إلى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا، قالت صَفِيَّةُ: ما أُرَانِي إلا حَابِسَتَهُمْ، قال: عَقْرَى حَلْقَى(10) أَوَ ما طُفْتِ يوم النَّحْرِ؟ قالت: قلت: بَلَى، قال: لَا بَأْسَ انْفِرِي، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَلَقِيَنِي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُصْعِدٌ من مَكَّةَ، وأنا مُنْهَبِطَةٌ عليها، أو أنا مُصْعِدَةٌ وهو مُنْهَبِطٌ منها". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت.)
والرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم يستخدم الوسائل المعينة في تعليمه وتوجيهه وإرشاده وعمله، فقد استخدم في الحج وسائل معينة حسية في تعليمه، فأشار بالسوط، واستلم الركن بمحجن وشبك أصابعه؛
عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ، أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا (خِلَالَكُمْ) مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ( وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا) بَيْنَهُمَا". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب أمر النبي بالسكينة عند الإفاضة)
وعن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:" طَافَ النبي صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ على بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ(11)". (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب استلام الركن بالمحجن).
وفي الحديث الصحيح عن حج الرسول صلى الله عليه وسلم: "... حتى إذا كان آخِرُ طَوَافِهِ على الْمَرْوَةِ فقال لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لم أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كان مِنْكُمْ ليس معه هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً فَقَامَ سُرَاقَةُ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هذا أَمْ لِأَبَدٍ فَشَبَّكَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الْأُخْرَى وقال دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ". (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع).
فهذه وقفة تأملية عند عينة من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة التي وردت في الحج، وبرز فيها استخدام الأساليب التعليمية والوسائل المعينة في التعليم والتعلم، مما يدعو التربويين لتحليل هذه النصوص وأمثالها ليستنبطوا منها ما يفيد في المجالات التعليمية والتربوية، بهدف تحقيق الفائدة المرجوة إن شاء الله منها، وبخاصة في مجالات التأسي والاقتداء بالرسول الأسوة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
الهوامش:
1. وهنهم: أضعفهم.
2. يرملوا: المشي السريع مع تقارب الخطى.
3. هجر: صلى وقت الهاجرة، أي وقت الحر الشديد.
4. سرادق: كل ما أحاط بالشيء.
5. والمِلْحفة المعصفرة: اللِّباس الذي فوق سائر اللباس من دِثار البرد ونحوه؛ وكل شيء تغطَّيت به فقد التَحَفْت به، وقد صبغت باللون الأصفر.
6.الرواح: الخروج آخر النهار.
7. الغدي: الخروج أول النهار.
8. المهل: إِذا رفع صوتَه بالتَّلْبية.
9. ليلة الحجاج: ليلة خروج الحجاج من مكة بعد أيام التشريق.
10. أي عقرها الله، بمعنى جرحها، وهو دعاء يجري على لسان العرب ولا يعنونه، ومعنى (حلقى): كناية عن إدخالها الشر على أهلها.
11. عصا معقوفة الرأس كالصولجان.
الرسول الاسوة صلى الله عليه وسلم وأساليبه التعليمية في الحج
- التفاصيل