سحر محمد يسري
رأى المفضل بن زيد... ابنًا لأعرابية مسلمة، فأعجب بمنظره، فسألها عنه، فقالت: (إذا أتم خمس سنوات أسلمته إلى المؤدب، فحفظ القرآن فتلاه، فعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخرة قومه، وطلب مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحلم حملته على أعناق الخيل فتمرس وتفرس، ولبس السلاح، ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ).
أعزائي المربين
إننا أمام نموذج فريد للتخطيط والإعداد من أجل تربية ولد صالح.. فلا نستطيع أن نفسر طريقة هذه المرأة الأعرابية إلا بأنها كانت تخطط لتربية ولدها منذ ولادته..وتنفذ ما خططت له المرحلة تلو الأخرى فهي تعرف ماذا تفعل وإلى أين تسير!!
إنَّ التربية عملية تطوير مستمرة، وليست بالعمل الذي نعتمد فيه على ما علق في أذهاننا من تربية والدينا لنا، أو بما يرشدنا إليه الأصدقاء والأقرباء، بل تستلزم منا الشعور العميق بالمسئولية وثقلها، وبضرورة الإعداد والتدريب لها، ومعرفة العديد من قواعد وأصول التربية السليمة، والتسلح بمهارات التربية الصحيحة، نعم إن الأمر يستلزم في كثير من الأحيان تعديل سلوك الوالدين والمربين أنفسهم، وتطوير أدائهم التربوي. وبدون هذه النظرة الجادة للتربية سنخرج جيلًا عشوائيًا تمامًا مثل التربية العشوائية التي تلقاها.
هل تعتمد الأسرة في مجتمعاتنا العربية التخطيط لتربية أبنائها؟
المربون ثلاثة أصناف: صنف يخطط للمستقبل، وصنف لا يخطط للمستقبل مسبقًا بل يكونون مع التيار يبادرون إلى حلّ المشكلة بعد أن تقع مرتجلين الحلول كيفما اتفق لهم، وصنف غير مبالٍ لا يلتفتون لقضية التربية الجادة، فإذا قابلتهم المشاكل يهملونها ويتركون الحل للزمن مهما كانت النتائج!
والأسرة العربية بشكل عام انفعالية في تربية أبنائها، وقلما تتابع الأسرة الإشراف على تربية أبنائها وفق خطة هادفة محكمة، ولعل الخطأ الأكثر شيوعًا على الإطلاق هو عشوائية التربية، وعدم اتخاذ العلم والتدريب طريقًا لتحسين أداء الوالدين فيها، لذلك نرى الكثير من أوجه القصور في التربية يقف سببًا وراء ما نراه من عيوب وعلل، مثل عدم متابعة الأبناء في دراستهم وتأدية واجباتهم، أو التعاون مع المدرسة لرفع مستواهم العلمي والتربوي، أو التركيز في تعديل سلوكياتهم في المنزل وتصحيح أخطائهم بشكل منتظم وهادف أولا بأول..فهذا هو الأسلوب الارتجالي في التربية أو ما نطلق عليه عشوائية التربية [هداية الله أحمد الشاش، موسوعة التربية العملية للطفل، ص:193].
لماذا علينا أن نخطط لتربية أبنائنا؟
تكون الأعمال ناجحة ومتقنة، إذا سارت وفق خطة مدروسة وأهداف واضحة المعالم تسعى لتحقيقها، وإنشاء الأسرة بدون تخطيط سيكون مآله الفشل أو التخبط والعشوائية؛ لذلك لابدّ لكل عمل ذي شأن من خطة توضع في بداياته حتى تكون نتائجه طيبة، فكلمة التخطيط تعني: العمل من أجل المستقبل.
القرآن يوجهنا نحو التخطيط لتربية الأبناء:
التخطيط فيما يخص الأبناء ليس بجديد على المسلمين، إنما الجديد أننا ندعو إلى العمل به وتطبيقه مجددًا، فقد ورد في القرآن الكريم مفصلًا، نماذج من تخطيط الأنبياء والصالحين لحياة أبنائهم ، وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يخطط بالدعاء والتضرع لله رب العالمين من أجل ذريته بشكل يمتد في الآفاق الرحبة للزمن القادم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إذ يدعو دائمًا بلفظ "ذريتي" ولا يقصر الدعاء على "ولدي" قال تعالى:"رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء" [سورة إبراهيم:35].
قال تعالى: {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}، [آل عمران: 35] ولأن الآباء والأمهات قلقون دائمًا على مستقبل الأبناء من بعدهم، ويداخلهم الإحساس بالخوف الشديد عليهم إن هم ماتوا وأبناؤهم لا يزالون صغارًا لا يقومون بأمر أنفسهم، فيأتي التوجيه القرآني العظيم ليزيل هذه المخاوف، ويعلم الآباء والأمهات أنّ الخطة الوقائية التي تؤمن مستقبل الأبناء إذا ماتوا وتركوهم صغارًا هي:( تقوى الله + سداد القول)! قال تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا} [النساء: 9].
توجيه نبوي فريد نحو التخطيط التربوي العملي:
يتضح ذلك جليًا في حديث: {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع}.
هذا الحديث فيه دليل دامغ على أن التربية القويمة التي تؤدي إلى تنشئة الإنسان الصالح لابد أن تقوم على التخطيط والمتابعة ووضع البرنامج الزمني، بعيدًا عن العشوائية والارتجال في التربية، كما يؤكد هذا الحديث العظيم حقائق تربوية وإدارية لم يتوصل إليها العلماء إلا حديثًا مثل أنّ فترة ثلاث سنوات تعتبر فترة كافية لإحداث البرمجة الإيجابية، ثلاث سنوات تعنى (5475) صلاة مرّت على الطفل، و(5475) وقت انتظم فيه الطفل، وهذا العدد من التكرار يعد كافيًا بشكل كبير لبرمجة الطفل على إقامة الصلاة اعتقادًا وممارسة وإدارة للوقت نظامًا وانتظامًا. وأي طفل خضع لهذا العدد الهائل من التكرار غالبًا يثبت على أدائها طوال حياته. [د.مصطفى أبو سعد: التربية الإيجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية للطفل، ص:78].
كيف نخطط لتربية أبنائنا؟
- علينا أولًا أن نخلص النية لله سبحانه وتعالى، ونستحضر الهدف الكبير الواضح في تربيتنا لأبنائنا (إنجاب الذرية المؤمنة التي توحد الله تعالى، وتنهض بنفسها وأمتها)؛ ومن ثَمَّ نعمِل حواسنا وأذهاننا في التخطيط للوصول إلى هذا الهدف.
- الإسلام يوجهنا إلى التخطيط المبكر منذ التفكير في الزواج، عندما يأمر ويؤكد على ضرورة اختيار الزوج الصالح ذا الخلق والدين، "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"، وكذلك اختيار الزوجة الصالحة ذات الخلق والدين، "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، واختيار الشخص الصالح الذي سيقوم على تربية الأبناء ويمثل لهم القدوة أهم خطوات التخطيط السليم الذي نعنيه .
- يتشرب الطفل عن طريق القدوة ومن خلال الحديث اليومي المستمر مع والديه ما يبني الجانب القيمي والسلوكي والأخلاقي لديه، لذلك اجعل هدفك الكبير لا يغيب عن مخيلتك أبدًا ووظّف كل دقيقة في نشاط أو كلمات تقربك منه، فهذا هو الفارق بين حالة الهدف وحالة اللا هدف، وأنت في ذلك مستعينًا بالله تعالى تتضرع إليه ليل نهار من أجل صلاح أبنائك ورشادهم.
- وأثناء ذلك ضع أهدافًا قصيرة المدى (مرحلية) محددة المدة، مثل: (تحفيظ طفلك – 8 سنوات - الأربعين النووية خلال إجازة الصيف بمعدل 10 أحاديث في الشهر تقريبًا).والمهم في الأهداف المرحلية أن تكون واضحة بكل تفاصيلها ومحددة زمنيًا، حتى يتسنى لنا متابعة وقياس مدى تنفيذها في الواقع.
- اكتشف قدرات ابنك مبكرًا : وتعرف على طموحاته وأحلامه من أجل توجيهها و تنميتها، ولقد أكد مختصون في علم النفس التربوي أنَّ كل الأطفال لديهم أحلام وتطلعات يعبرون عنها سواءً بالكلام أو السؤال أو بالاهتمام بالقصص التي يصرون على سماعها والعودة إليها مرة أخرى، أو حتى من خلال اللعب الذي يرغبون ممارسته معظم الوقت. مشيرة إلى أنه يمكن لكل أب أو مرب أن يتحلى بالملاحظة الثاقبة أن يتعرف على أحلام الأبناء وتطلعاتهم، فالمواهب والقدرات تحتاج منّا إلى تعاهد و رعاية حتى تنمو وتزدهر، وكذلك الأحلام حتى تتحقق.
- التدوين والكتابة: يعين المربي على جعل خطته التربوية قيد التنفيذ، فمثلًا يمكن أن نسجل الأهداف طويلة المدى على هيئة أسئلة وإجابات، هكذا:
1- ما الصفات النفسية والعقلية والخلقية التي أتمنى أن يتحلى بها أبنائي؟ (الصبر – الرحمة - التعاون – الثقة بالنفس – المثابرة...).
2- ما أهم المهارات التي أود أن أزودهم بها؟ (النظام – القراءة – تحسين الخط – التخطيط ...).
3- ما نوعية التعليم الذي أتمناه لهم؟ ( أن يكون شاملًا للجانب الديني – المناهج الدراسية – الثقافة والمعارف العامة – جانب المهارات..).
- احرص على الاستفادة القصوى من الوقت في تربية أبنائك: فمثلًا وقت تناول الطعام يمكن أن يكون هو نفسه وقت مراجعة القرآن الكريم مع المسجّل أو الكمبيوتر في يوم التسميع، وكذلك الوقت الذي تقوم فيه الأم بتنظيف المنزل يمكن أن يكون هو نفسه وقت تدريب الطفل على استخدام المكنسة الكهربائية، أو تلميع الأثاث، كذلك وقت الطهي وقت مناسب لإشراك الطفل وتعريفه عددًا من الأشياء كأنواع الخضر – ألوانها – فوائدها – مدى التشابه والاختلاف بينها – ربطه إيمانيًا بالله تعالى وقدرته ونعمه الكبيرة علينا وأنه هو الذي وهب لنا هذه الخضر والفاكهة.
- لاحظ وتابع: فالملاحظة الدقيقة والمتابعة الجيدة من أهم عوامل نجاح الخطط، تحقيق الأهداف، ولا يستطيع المربي ذلك إلا بالصبر والنفس الطويل، وأن يلغي من قاموسه كلمات قصيري الأنفاس مثل: (لقد تعبت وضجرت من الأبناء وتربية الأبناء، لم أكن أحسب أنّ الأمر بهذه الصعوبة، إلى متى سأظل أربي، متى يتخرج الأبناء وأرتاح منهم؟) وليتذكر قول الله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132].
وأخيرًا عزيزي المربي...
إنّ تربية الأبناء وتعهدهم هي الخطوة الرئيسة والتحدي الهام الذي يتوقف عليه مستقبل أمتنا المسلمة، خاصة في هذه المرحلة الهامة التي تتجه فيها أمتنا نحو النهوض من جديد، وتستشرف لها البشرية جميعها..فلنؤديها بإخلاص وأمانة وفق خُطَّة مدروسة ونهج محدّد وأهداف واضحة لدينا بكل الثقة في الله تعالى الذي لا يضيع اجر من أحسن عملًا [د.عدنان النحوي: التربية في الإسلام: النظرية والمنهج، ص24 بتصرف].
ـــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- محاضرة (التخطيط لمستقبل الأبناء): فضيلة الشيخ / محمد المنجد.
- موسوعة التربية العملية للأبناء: هداية الله أحمد شاش.
- التربية الإيجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية للطفل: د.مصطفى أبو سعد.
- التربية في الإسلام، النظرية والمنهج: د. عدنان علي رضا محمد النحوي.
كيف تخطط لتربية أبنائك؟
- التفاصيل