د. أحمد المحمدي
هذه رسالة مفتوحة إلي كل أبنائنا، أحدثكم الان بلسان كل أب يخفي في صدره من مشاعر ما سأظهر بعضها في تلك المقالة، الدافع لذلك حديث سمعته وآلمني تكراره من بعض الأبناء حين يتناسون فضل الآباء عليهم، وحنينهم وودهم وحبهم لأمر عارض أو تقصير لا يعرفون هو أبعاده.
بني: أنت زينة الحياة الدنيا لي، هكذا قرر القرآن وقضى، هي إذن فطرة وضعت في صدر كل والد تجاه ولده (ذكرا كان أو أنثي) لا يريدان من وراء ذلك أجرا ولا ثمنا، بل غاية مرادهما من الله صلاح حال أولادهما، يتعبان لأجل رعايتهم، ويسهران لأجل راحتهم، ويتألمان إذا ما أصابهم عارض، ويتمنيان أن لو كان العارض فيهما وابنهما سالم، فإذا شب وكبر وأراد السفر؛ ضحكا في وجهه وقلبهما متألم، واجتهدا في طلبه وأرواحهما تنازع أجسادهما، وما أن يخرج الحبيب من البيت حتى يخلو كل منهما بنفسه والحزن يعتصر فؤاده والدمع لا يكاد يجف من عينه، ولسان حالهم ما قاله الطرسوسي قديما:
لو كان يدري الابن أية غصة يتجرع الأبوان عند فراقه
أمٌ تهييج بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه
يتجرعان لبينة غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقه
لرثى لأم سلّ من أحشائها وبكى لشيخ هام في آفاقه
ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعطف من أخلاقه.
يسافر الولد ويغترب وتشغله الأيام والليالي عن والديه، وهما لا يملان التفكير فيهم والدعاء لهم، وإذا أردت بني أن تتعرف على الشوق الدفين في صدر والدك فاستمع إليه على لسان الشاعر العربي السوري عمر بهاء الدين الأميري لما ودع أولاده الثمانية ودخل بيته فلم يجدهم فبكى وقال:
أين الضجيج العذب والشغب أين التدارس شابه اللعب
أين الطفولة في توقدها أين الدمى في الأرض والكتب
أين التشاكس دونما غرض أين التشاكي ماله سبب
أين التباكي والتضاحك في وقت معا والحزن والطرب
أين التسابق في مجاورتي شغفا إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوْق فطرتهم نحوى إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا
وهتافهم "بابا" إذا ابتعدوا ونحيبهم "بابا" إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا واليومَ، ويح اليومَ، قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت أثقاله في الدار إذ غربوا
إغفاءة المحموم هدأتها فيها يشيع الهم والتعب
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهم في القلب، ما شطوا وما قربوا
إني أراهم أينما التفتَتْ نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحس في خلدي تلاعبهم في الدار ليس ينالهم نصبُ
وبريق أعينهم إذا ظفروا ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كل ركن منهم أثر وبكل زواية لهم صخب
في الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت عيني كأسراب القطا سَرَبوا
دمعي الذي كتمته جلدا لما تباكوا عند ما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيْيتُني كالطفل عاطفةً فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العُذّال من رجل يبكي وإن لم أبكي فالعجب
هيهات ما كل البكا خور إني وبي عزم الرجل أب.
هذا غيض من فيض مما يخبئه صدر والدك لك، مما يخفيه خلف كلماته القوية وعباراته الحادة التي ما أراد منها إلا أن تكون رجلا يتحمل الشدائد ويواجه الصعاب.
ودعني أسر لك أمرا أرجو أن تعييه تماما، بني لن تجد أحدا يحرص عليك ويتمني نجاتك مثل والديك، وإذا قدر الله وفاة الولد لن تجد من يذكره بالدعاء مثلهما، هل أتاك حديث عمر بن ذر الهمداني لما مات ولده ذر، وكان موته فجاءة، أتاه أهل بيته يبكونه فقال: ما لكم؟ إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب. فلما وضعه في قبره قال: رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارا، ولقد كنت عليك حدباً، وما بي إليك من وحشة، ولا لي إلى أحدٍ بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل. ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. يا ذر ماذا قيل لك وماذا قلت؟ ثم قال: اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني له، فلا تعرفه قبيحاً وتجاوز عنه فإنك أرحم الراحمين. اللهم وإني قد وهبت لذر إساءته إلي فهب له إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم.
وبعد ما سمعت وقرأت أسألك يا ولدي، هل تعلم أني أحبك؟
ولدي.. هل تعلم أني أحبك؟
- التفاصيل