صفاء البيلي
أسماها أبوها إسماعيل تيمور باشا "عائشة" تيمنا بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما روي عنها من بلاغة وفصاحة وبيان، وحينما كبرت وكانت تسمع جلسات الأدباء في بيتهم من وراء حجاب اقتسمها أبوها من أمها على أن يعلمها القراءة والكتابة ويترك لأمها أختها الثانية لتعلمها فنون الطبخ والمنزل. تفجرت ينابيع الشعر وتألقت في ردهات روح شاعرتنا الرائدة عائشة التيمورية وهي ما تزال فتاة صغيرة، فحوى ديوانها المطبوع في طبعات عديدة والمسمى بـ"حلية الطراز" أشعارها المتزنة التي تنوعت لتشمل معظم أغراض الشعر، فتارة تأخذك أبياتها عبر لغة رصينة قوية لتحدثك عن حدث سياسي، وأخرى تنعي عزيزا فقدته وثالثة تعبر عن فرحتها بشفاء عينيها من رمد قد أحل بها فكانت لا تستطيع القراءة أو الكتابة:
شقيقة الروح يا قلبي لقد شفيـت
وأصبحت في حلا أبهى السلامات
فابشر بروحين صحا بعدما سقما
وروح الصدر من نفح المسـرات
وارفع أكف الثنـــا لله مبتهجا
ما غرد الطير من شوق بروضات
وفي تضرع وتذلل نقرأ معها أبياتها بما تحويه من ذل يقربها إلى باب مولاها العزيز الرحيم:
إلهي سيدي أنت الجليـــــل
بباب رجائك العبد الذليـــل
ضعيف الحال منكسر فقيـر
كثير الغي ناصره قليــــــل
فأنت لذنبه رب غفــــــــور
كريم صفحه السامي الجزيل
ولعل دفاعها عن الحجاب واعتزازها وتمسكها به وهي من القليلات اللائي كن يقلن الشعر، في عصرها، وعلى الرغم مما يدعيه البعض من أن الأديبات يجب أن يكن متبرجات، فقد كانت أديبتنا نموذجا للمبدعة المسلمة والمعتزة بحجابها ودينها، فكانت على سبيل المثال لا تجالس الرجال وتقرأ شعرها في حضرة النساء الشاعرات فقط ممن اشتهرن في عصرها أمثال " الست المغربية، وردة اليازجي، زينب فواز والأميرة نازلي مصطفى فاضل ثم تناقله الألسنة جميعا نساء ورجالا فتقول عن حجابها:
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أسمو على أترابي
وبفكرة وقادة وقريحـــة
نقادة قد كملـــت آدابي
ولقد نظمت الشعر شيمة معشر
قبلي، ذوات الخدر والأحسـاب
ولما كانت دعاوى حرية المرأة قد بدأت النساء تخوض غمارها أخذت تدافع عن الرجال قائلة:
إن الرجال أسود عزة رفعـــة
تسطو على روض العلا ويصول
لهم النضير بكل غصن مثمــر
وسواعد للســـــاميات تطـــول
حازوا المكارم تحت عزة فضلهم
وشهودهم بين الأنام عقــول
وعائشة حنونة بطبعها، تعلما من أبيها طرق التربية السليمة فكانت تحب أولادها وتعطف عليهم فها هي تقول في قصيدة كتبتها لابنها حين سافر إلى طنطا:
بيدي السلام لدى الوداع تلطفا
بتوجعي استودعته الستارا
بدر نأى عني ويعلم أنني
في صبح غرته أرى أقمارا
وقد قالت هذه الأبيات وقلبها يعتصر ألما وكمدا بعد وفاة ابنتها توحيده التي بلغ عمرها ثمانية عشر عاما بعد أن كانت تعدها لتكون سندا لها وكانت تعاملها على أنها أختها لا ابنتها، فلما توفيت توحيده أصيبت عائشة بإحباط وألم شديدين منعاها الكتابة بل ودفعها ذلك لحرق معظم ما كتبت من أشعار بثلاث لغات منها العربية والتركية ثم جنحت إلى الوحدة ولم يخرجها من هذه الحالة إلا بلوغ ابنها محمود سنا نضرا فتقرب إليها وجمع لها أشعارها واستأذنها في طبعها لها في ديوان، ولعلنا نلمح رقة مشاعرها ومشاركتها في المناسبات الاجتماعية بشعرها الراقي حيث نراها تقول في تهنئة بقدوم مولود:
تجلى النور في أفق المعالي
وحل البدر في أوج الكمـــال
وأزهرت الكواكب مسفرات
عن البشرى فأشرقت الليالي
وأبدى الدهر مولودا زكيـــا
تلوح عليه آيات الجــلال
ولم تخل قصائدها من الفكاهة فها هي تصف بخيلا وصفا برغم قسوته لا يخلو من اللطف والدعابة:
حيا الحريص صديقه بتحية
فأجابه بيديه دون لســانه
حذرا على أن يصرف الأنفاس في
رد السلام وصانهـــا ببنانه
فأجبته: دعها ليوم حســابه
سيزيدها نفخا على نيرانــه
والمتفحص لديوانها يجد صدى تربيتها الدينية العميقة حيث حفظت القرآن الكريم كاملا في سن صغيرة وتعلمت الحديث وغيره من علوم القرآن الكريم وشعر القدماء كالمتنبي، البوصيري والبارودي وغيرهم فقد أحضر لها أبوها من تعلمها في البيت لعدم انتشار المدارس في ذلك الحين فكان لذلك أثره الواضح في لغتها ومعانيها التي اصطبغت بالصبغة العربية والإسلامية فنراها تنهى الناس عن النميمة قائلة:
احفظ لسانك من ذم الأنـــــام ودع
أمر الجميع لمن أمضاه في القــدم
معايب الناس لا يكبرن عن غلطي
إذا نممت بها في محفـــل الهمـــــم
وحينما أختبرها الله بفقد ابنتها وخرجت من حالة الحزن ركنت إلى التأمل واستمرت تكتب في شعر الحكمة لما وجدت من ميل في نفسها ومناسبة لحالها فقالت تدعو إلى الصبر على الشدائد:
لا تجزعن من الشدائد وألقهــا
بالصبر والتقوى فإنهما لهـــــا
وها هي تدعو إلى التأمل في كثير من أشعارها فتطلب من الناس التفكر في النهايات غير المرئية وعدم الاكتفاء بالنظر في بدايات الأمور لأن لكل شيء نهاية ومهما تكمل الحياة تنقص حتى تصير إلى زوال فتقول :
إن تم أمر ما؛ فراقب يا فتى
نقصانه عما قليل ، وانظـــر
وفي قصيدة من أجمل ما كتبت تبدو حكمتها وخبرتها بحقيقة الحياة وتتمنى أن يفطن العقلاء إليها ولا ينقادوا وراء زخرفها الفاني تقول:
حوادث الدهر للإنسان مـــرآة
مصقولة كم بها للدهر عبــرات
فمن رأى حظه تهذيب زخرفــــــة
بكل زين؛ نبت عنه المسـرات
لا تلتفت لبهيج راق منظـــره
وخلفه السم وارته المــــداراة
وهذب الخلق مهما تستطــــــع لترى
وجه الملاحة حفته النضــــارات
وارفع عصابة ذي الغفلات عن بصر
حتى ترى ما أساءته المــواراة
فمن لقلب أباد الوجد مهجتــه
وبددت كبده الريان زفــرات
ترى تعود له أمنية سلـفـت
وأخلفتها بكف الروح حسـرات؟
فهل لكسر زجاج الكأس منجـر
من بعد ما كثرت منه الجـــذاذات؟
لها أون لاين