آمال لواتي
تطرق الشعراء الإسلاميون عند حديثهم عن المرأة عن إطار حقها في الحياة والحرية والكرامة، فهي كالرجل لها أشواقها وآمالها، تنتابها عوامل القوة والضعف، والنصر والهزيمة، والاستقامة والانحراف، لها مشاكلها الذاتية والاجتماعية، ولها رسالتها التي ترتبط بواجباتها الزواج والأمومة ومجالات الحياة الأخرى، بحيث لم يتجاهلوا المرأة الأم والزوجة والابنة والأخت، والمرأة العالمة والأديبة والطبيبة والممرضة والمعلمة والمجاهدة والمصلحة وغير ذلك من المواقع المختلفة.
كما لم ينظروا إلى انحراف المرأة على أنه لعنة أبدية، بل نظروا إليه كمرض اجتماعي وكلحظة ضعف، مما يجعل المرأة تحتاج إلى من ينهض بها أو يقويها حتى تبرأ من آثاره الوخيمة عليها وعلى مجتمعها.
كما نقدوا آثار تحرير المرأة والدعوات التغريبية التي أحدثت تغيرات مضطربة ومتناقضة في موقع المرأة الاجتماعي بما لا يتوافق والمبدأ الإسلامي. وصوروا في القابل أزمة المسلمة الملتزمة بدينها ـ  سلوكا وفكرا ـ  في ظل تلك التغيرات التي جعلتها عرضة للتهكم والاضطهاد حتى تساير ركب التعريب. فكشف شعرهم عن نماذج نسائية مختلفة:

المرأة والهداية:

هو نموذج المرأة المتدينة المتخلقة التي تتحلى بسجايا التقوى والفضيلة، والطهر والعفة والبساطة والصفاء والصون والاحتشام، التي تصرف  إعجاب الشاعر نحو جمال الروح والخلق في رؤية سامية لتقويم الجمال، وتجعله حريصا على صور التهذيب والتربية التي ينشدها من أجل إصلاح حال مجتمعه، التي تجتمع فيه كل الفئات بالحرص على طابع الزي والعادات والأخلاق النابعة من صميم شخصيتنا الأصلية.
فالمرأة التي ظفرت بنصيب وفير من شعر محمود إسماعيل هي مرأة الريف التي تمثل العنصر النسوي المتمسك بالعفة والطهارة، والحشمة والحياء، والبساطة والطيبة وغيرها من القيم والفضائل التي تجتمع كلها لتميز المرأة المتدينة، التي جذبته بعذريتها وصفائها وجلبابها، بحيث يتكرر هذا النموذج في أنقى وأجمل صورة مع صفاء الطبيعة، وفيها يقول:

يهنيـك عــذراء إذا أقبلــت
يستلهـم العفــة مـن جــرة
قدسية القلــب، بها عصمـة
كأنمــا ريشــة جـلابيبهــا
للنيل أصغى موجع الهادر
يحنـــو عليهـا ملــك طاهـر 
لم يؤتها نسر السمـا الكاســر
فالويــل إن مــر بهــا فاجر 

وراح شاعر آخر هو حسن الأمراني يبحث عن هذا النموذج المتدين لا في الريف، وإنما في المدينة حيث أضواء العصر تدعو إلى الاستسلام لزخرف الدنيا وتبرج الجاهلية، فرمز إليها بأزواج النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، اللواتي خيرهن بين الدنيا والآخرة، وكان أن اخترن الله والرسول اختيارا مؤمنا، كما جاء في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما).
فتمنى الشاعر أن تكون للمرأة المعاصرة قدرة على الاختيار، بعد أن دعاها محذرا كي تسد النوافذ حتى لا تتسرب إليها الرياح القادمة من الغرب، وكما يقول محمد علي الرباوي: إن الشاعر استعمل الرياح في هذا المقام وهي في القرآن الكريم لواقح، ولم يقل إن الريح تجيء من الغرب، لأن ما يأتي من هناك لا يكون إلا مدمرا. وإن آثر الشاعر استعمال الرياح في هذا المضمون لأن ظاهرها عند ضعاف الإيمان يوحي بأنها لواقح نظرا إلى ما تقدمه من إغراءات تمنع المرأة من أن تلتفت إلى ما تحمله في طياتها من دمار. فهذه الرياح آتية لمحو المآذن ومحو الإسلام. يقول الشاعر:

تأججت النار في شرفات الوطن
فسدّي النوافذ، سدّي النوافذ
إن الرياح تجيء من الغرب مثقلة بالرصاص
وطعم الوهن
ومدي الرداء
نفكك مع الفجر أزرار حلم يخبئه القلب
مدي الرداء ولا تعبئي بزئير العواصف
نبايع على أن نقاتل حتى انفراد السوالف.
وهذي الرياح تجيء من الغرب مؤذنة بالخراب
ومحو المآذن والعندلات.
ومن علامات هذا الاختيار أنها باعت أضواء المدينة واشترت النور والابتهال والحجاب:
بعت أضواء المدينة
واشتريت النور غضا
يجتلي رائحة الوحي
وأنداء السكينه
وبجوف الليل قمت
فتلقيت، وقد أدلج منك القلب نحو الله
يا نعم العطاء
سفرك الأول من غراء حراء
إن هذا أول الخطو، لقد
ربح البيع فكوني أنت أنت

والإعلان عن هذا الاختيار أعاد الأمل إلى قلب الشاعر بعد توجس وألم، فجاءت قصيدة "من حراء" علامة على الوحي الذي فجرته المرأة المؤمنة. ولكي يعبر عن ذلك الطهر الروحي استدعى لحظة نزول الوحي على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ثم دعوته إلى خديجة يدعوها إلى أن تدثره، إذ يقول: 
دثريني
دثريني
إنني المقرور في عز الظهيرة
وأنا المطلوب دون الناس وحدي يا أميرة
دثريني
دثريني
واحملي أوتارك الجذلى إلى روحي 
انهضي شامخة الرأس، اتبعيني
إنني أعددت أعراش اليقين 
وتطمئن نفس الشاعر وهو يتغنى بحضور المرأة المؤمنة المتميزة بأخلاقها ودينها وحجابها وعفتها، والتي اختار لها من الأسماء بعد خديجة، عائشة ـ  رضي الله عنهما:
فتنهض عائشة المستحمة في نهر من ضياء
كلؤلؤة لا تقدر
تنهض نجمة حزن بهي المطارف في القصر
يطلع من شفتيها نشيد المنافي
وتوقظ في الروح شمس القوافي
ليتحد السيف بالأقحوان .

المرأة والانحراف

هو نموذج المرأة التي تحيد عن سواء السبيل بإغراءات المدنية الزائفة، وضياعها مع تيار العري والسفور، واللهو والانحراف، والفاحشة والبغي.. ففي قصيدة "الرداء الأبيض" يخاطب الشاعر محمود حسن إسماعيل نموذج هذه المرأة التي ترتدي ثوبا أبيضا، شفافا فاضحا،هاتكة الحياء، مشعلة الكيد، ملطومة الشفاه والأظافر باحمرار مزيف...  فيأمرها بحدة وسخرية أن تمزق عنها هذه الأصباغ والألوان، وتتراجع عن إثمها وتماديها في التكشف والزينة للغير:

توحشـــت في غفلـــة الحيـــاء         
بأبيـض يفنــى علـــى الضيــاء
يـا فاتنـــة تمشـــي بـــلا رداء        
لوحها طــول اشتعــال الكـيــد..
ملـطومـة الشفــاه والأظـافــر     
أحمــر عـــن زيفــه مهـــاتـــر
يسقى بمـاء شـــب في السرائـر         
وأثمـــرت نيرانـــــه في الخـــد..
فمزقــي الأصبـــاغ والألـوانـــا      
فإنـهــا لا تخفـــــف النــيرانـــــا

ويتحول الشاعر "صالح آدم بيلو" برؤيته إلى نموذج نسائي آخر، سقط في غياهب الخطيئة بعد عفاف وطهر، وكان واقعيا في نظرته فلم ينفر من نموذجها الفاسد ولم يصب غضبه ونقمته عليها، بل نظر إليها نظرة المصلح الإجتماعي والروحي، فيضعنا أمام امرأة نادمة أكثر مما يصورها آثمة، ويصور لنا بشاعة الرجس والفجور الذي دنست به عرضها وعفافها، ومرارة حياتها التي لم تجن منها سوى العذاب والمرض والشيخوخة والموت بعد أن خسرت الأسرة والشباب والحب الحقيقي:

فقــادت خطــايا بقـــايا فتــــــــــاة         
إلى حيث سوق الخنا والشـراب
إلى بيت سوء شــديد الظـــلام         
رطيـب الجحـور كثير الطـــــلاب
فأصبحــت أبهـج كـل الرجـــال         
وأدخل من بعد صحب صحــاب
هنا في الظلام فتـى ذو اغــترار          
وذاك عجـــوز خليـــع الرغــــــاب
وأفنيــت عمــري تعيســـا كئيبــــا          
وولى شــبابـي فمـا مـــن شبــاب
وإنـي أحـــس دبيــب الســــلال         
علـــى رئـــتي يمـــض التهـــــــاب
ومــا لي إلى أســـرة مــن سبيــل         
وما لي إلى دارهـا مــن إيــــــاب
عظــامــي تضــــج وبـــي رعـــدة         
وفي ناظــري كثيــف الضبــــــاب
وتلسعــــــني سنــوات الخـريــــف         
وتثلجــــــني سنــــوات رطــــــاب

وتصوير الشعراء الإسلاميين لسقوط المرأة وندمها هو سمو بإنسانيتها التي تؤدي بالضرورة إلى الإصلاح والتهذيب الأخلاقي، وتمنع أي امرأة من الدخول إلى هذا العالم الوضيع من الحياة، واتخاذهم طريقة الذم  والتحقير في ثوب الاعتراف والندم حتى يتم الإقناع بالهداية والإصلاح، لأن أسلوب النقمة والقدح والهجاء والسب السافر والحط من وجود هذه المرأة، قد يؤدي بها ضعفا وجهلا وهروبا إلى عدم التورع عن تغلغلها في الرذيلة والفاحشة وتدمير حياتها وحياة مجتمعها ما دامت تعيش التحقير والتهميش والتبرأ منها قبل فتح مجالات تحقيق سبل عيشها ورزقها.
ويهتمون أكثر بإرجاع المسؤولية إلى المجتمع الذي ساهم في ظهور هذه النماذج النسائية بتفريطه في حرمانها، وعدم رعايتها ومراقبتها أخلاقيا، وعدم الدفاع عن قيمها ومثلها الاجتماعية. وكذلك إلى الرجل باتهامه المباشر في إسقاط هذه المرأة التي يلجأ إليها لتلبي له بعض من رغائبه الجامحة ثم يرميها احتقارا وإذلالا.

المرأة والدور الرسالي في الحياة:

مبتعدا عن صورة المرأة المجردة من الإنسانية والقيم هو نموذج المرأة الفاعلة والمؤثرة في الحياة، والتي فازت باهتمام خاص عند الأديب ـ  الشاعر المسلم ـ  الذي حافظ على صورة المرأة الأخلاقية والموصوفة في كثير من أشعارهم بشتى الأوصاف والأساليب، والمنهوكة العرض والجسد، والمقيدة  بالفحش والرذيلة، والفتنة والغواية، إذ ينتقد الشاعر محمد يحيى الصديق هذا الواقع الأدبي الذي تمادى في تقديم تلك الصورة:

رأوا في سفـــور الغانيــــات ملاعــــب     
لأهوائهم في رحبها خيلهـم تجــري
شياطينهم توحـــي إليهــــم بزخــرف     
من القول في نثر يصــاغ وفي شعــر
وإن ذكروا حــــواء كــــان حديثهــم    
عن الشهوة الحمراء والنحر والصدر
ووصـــف بـــذيء للجمـــال يلفظـــه     
يجــرد تمثــال الجمـــــال بــلا ســتر
كــــأن نســــاء العالمــين تجســـــدت    
لديهـــــم رمـــــوز للغوايــــــة والشــــر
وقــــد نصبـــوا منهــــا حبائــــل فتنـــة    
وقالوا هو الفـــن الرفيــــع بـــلا نكـــر
وإذا هدروا الأعراض فالأمـر هــين    
وقد جهلوا ما قيمــة النهـي والأمــر

ويعدد الشاعر أمام أولئك الأدباء والشعراء صور حواء المغيبة عندهم في النفوس  والسطور هي صورة الأم، الأخت، البنت، الزوجة...  رغم مالهن من أثر إنساني عميق ورسالة مثلى في الحياة:

ومــا عرفـــــوا حــــــواء أما كريمــــــة     
وبنتا لهــــا حـــــق الرعــــــاية والــــــبر
وما عـــرفوا حـــــواء ذات رســـــالـــة      
وذات مكـان في العلا ليــس بالنـــزر
عشيرة عمر لا تمـــل على المـــــدى      
إذ ائتلف القلبان في العســر واليســـر
ومصلحـــة تبــني الحيــــاة  فترتقــي    
وتلهم أشبال الحمــى ذروة النصــــر
تهـز سريــــر الطفــل حــين تهــــــزه   
وتنفخ في أعطافـه شيمـــــة الحــــر

كما أفصح الشاعر سليم  الزركلي عن صورة أخرى للمرأة الفاعلة والمؤثرة، مشيدا بدورها النبيل في مجالات الحياة العلمية والعملية، محيي ذكرى نساء الصحابة وعظيمات التاريخ من أجل الإقتداء والإهتداء، فيقول:  

حــــــــي الحســــــــان الخــــــــيرات    
حـــــــــــي العقـــــــــول النـــــــيرات
حــــــــي الأنـــــوثــــــــة في جــــــــنان    
المـــــؤمنـــــــــات العــــاقــــــــلات
الـــــــداعيــــــــــات إلى العـــــــــــــلا     
الـــــواثبـــــــات النــــــــــاهضــــــــات
أبنـــــات يعـــــــــــــــرب، والحيــــــــاة 
لكــــــــن فـــــــي مــــــــــــاض وآت
كنـــــــــتن أمــــــــلاك الحضــــــــارة       
في العصـــــور الخالـيـــــــــات
فيكــــــن"حمـــــــراء النـــــــبي"         
وأمـــــــــــــــه في الآمنــــــــــــــات
وتماضـــــــر " الخنســــــــاء " في          
شعـــــر مـــــن العـــذب الفــــرات
" نسيبــــــــة "فخـــــــر الجهــــــــاد         
و"خـــولة " خـــــير الحمـــــــاة
وسكينـــــة زيـــــن المــــجـــــــــــا        
لــــس والعقــــــول الراجحــــات

ويتكرر الرمز النسائي الجهادي الحي "خولة" "ونسيبة " من أجل بعث الإيمان وروح التضحية في نفس المرأة المسلمة المعاصرة المجاهدة في سبيل الدعوة الإسلامية.
فهناك من النماذج النسائية التي ربطت وجودها بالقضايا المصيرية في العالم الإسلامي، وهناك من عانت السجن والتعذيب والاغتصاب والنفي والتشريد، وهناك حتى من أعدمن، فصور الشعراء صمودهن ومعاناتهن تضحيتهن بالنفس والولد والأهل في سبيل الدين. فيصف الشاعر يحيى بشير حاج معاناة أم تئن في قيودها وقد ضحت وكلها صبر وإيمان بأولادها في سبيل الدعوة:

وكم أخـت من الأغـلال نــاءت            
وكــــم أم تســربــــل بالحــديــــد
ينوء القلب مــن نـــوح الثكـــالى          
ومــن عــــبرات أحـــزان الوليـــد
ويسـألـــني صغــيرك أن تعــــودي          
فقد مــل الصغــير مــن الــوعــود
أقـــول لــه: غــدا تأتيـــك مــامــا           
بألعــــاب وبالثــــوب الجــــديــــد
فيرمقـني صغـــيرك ثـــم يمضــــي           
بدمعــات تسيـل علــى الخـــدود
فأســـترضـــي الـــبراءة بالعهــــود           
وأستجــدي البشاشـــــة بالنقـــود
وأرجــو أن أصــدق كـــل وعــــد          
بذلـــت لـــــه فـــــآه مــن وعــــود
ولم تـدر الصغــــيرة وهـــي غفــل          
بأنــــك يــــا أخيـــة في القيـــــود...
وأرجــو لو بقيــت العمـــر طفــــلا            
بقلــــــب غافـــــــل غـــــــير ودود
ومن يقصي عن الأطفــــال أمّــــا          
سوى ذي اللؤم والطبع الحقود
بني لئن حرمت العطــف ظلـما       
فمـــا للظلــم مـــن عمــر مديــــد

كما صور حسن الأمراني معاناة المرأة في البوسنة والهرسك أما وأختا وبنتا، فهذه أم تنادي: "وا إسلاماه"، هذه العبارة التي صرخت بها امرأة  في الزمن الماضي من أجل الكرامة والحرية، وهاهي قد صرخت بها إحدى نساء الزمن الحاضر تندب الإسلام وتنسى ابنها الفقيد لأنه سيظل شهيدا:

فليحفظوا عني نشيدي
سأظل أندب يا بديع
ولقد يجف النهر
لكن لن تجف وإن يصبّرت الدموع
لست أندب طفلي الغافي على صدر الرصيف
لكني وا حسرتاه أندب الإسلام

 

لها أون لاين

JoomShaper