التاريخ العربي والإسلامي ملئ بنماذج النساء اللائي برعن في فن الرثاء.. رثاء أزواجهن، أبنائهن، إخوانهن أو غير ذلك؛ فلم يقتصر الأمر قط على الخنساء لكنها وللحق أشهر الشواعر اللائى كتبن شعر الرثاء في أبنائها وإخوتها وسائر من قتل واستشهد من أهلها،وسأتحدث عنها إن شاء الله في موضع خاص لمكانتها الرفيعة في هذا الفن من فنون الشعر العربي.
لو تتبعنا ما كتبته معظم النساء ممن يقرضن الشعر لوجدناه يتقاطر ألما وحزنا وحسرة، كذلك فإن من تخلين عن الشعر ولجأن للنثر، نراهن وقد أبدعن العبارات البليغة والجمل المؤثرة حتى لتصير أقوالا مأثورة وأمثالا تضرب في المناسبات المشابهة.
والمرأة عموما مشهورة بعواطفها الفياضة خاصة في الحزن، وقليلا ما نبغت الشاعرات في فن غير فن الرثاء، لأنه أميل لاستنفار كوامن الذات المليئة بالوحشة والشجن، وهي الأكثر إحساسا بفجيعة الفقد والفراق، يشهد على ذلك تراثهن الذي تردده الألسنة حتى الآن!!
فالزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وقفت على قبر أبيها خير خلق الله تعالى قائلة:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها (1)
وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
لما نعيــــت وحالــت دونك الكــثب
أما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد وقفت على قبر أبيها الصديق رضي الله عنه فقالت (نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزا بإقبالك عليها. ولئن كان أجل الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك (2)
وأعظم المصائب بعده فقدك_ إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك، وحسن العوض منك، فأنا أتنجز (3) موعد الله، وأستعيض منك بالاستغفار لك، فعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية (4) لحياتك، ولا زارية (5) على القضاء فيك! ثم انصرفت رضي الله عنها.
وهذه نائلة الكلبية زوجة ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كما روى ابن الكلبي ؛ وقفت على قبر عثمان فترحمت عليه ثم قالت:
ومالي لا أبكي، وتبكي صحابتي
وقد ذهبت عنا فضول أبي عمرو؟!
ثم انصرفت إلى منزلها فقالت: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خفت أن يبلى حزن عثمان في قلبي!، فدعت بفهر(5) فهشمت فاها، وقالت: والله لا قعد مني رجل مقعد عثمان أبدا.
وتلك أعرابية ترثي ولدها بقلب أم تقطع من الألم قائلة:
يا فرحة القلب والأحشاء والكبد
يا ليت أمك لم تحبل ولم تلد
لما رأيتك قد أدرجت في كفن
مطيبـــا للمنايــا آخــر الأبــد
أيقنت بعدك أني غير باقيـــة
وكيف يبقى ذراع زال عن عضد؟!
وهذه أعرابية سئلت عن ابن مات لها: ما أحسن عزاءك؟قالت: إن فقدي إياه آمنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هونت علي المصائب بعده ثم قالت:
من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحـاذر
كنت السواد لناظري
فعمى عليك الناظـر
ليت المنازل و الديا
ر حفائــر ومقابــــر
إني وغيري لا محالة
حيث صرت لصائر
وقالت أعرابية ترثي أخاها الراحل:
كنا كغصنين في جرثومة سمقا
حينا بأحسن ما يسمو له الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما
وطاب فيئاهما واستنظر الثمر
أخنى على واحدي ريب الزمان وما
يجلو الدجى فهوى من دونها القمر
ونعيش مع حكاية الأصمعي الذي دخل بعض مقابر الأعراب مع صاحب له فوجد جارية على قبر تقف كأنها تمثال، وعليها من الحلل ما لم ير مثله وهي تبكي بعين غزيرة وصوت شجي فالتفت إلى صاحبه قائلا: هل رأيت أعجب من هذا؟ قال له صاحبه: لا والله ولا أحسبني أراه!
ثم توجه للأعرابية فسألها: إني أراك حزينة وما عليك زى الحزن، فأخذت تقول:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني
رهينة هذا القبر يا فتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا
كما كنت أستحييه حين يراني
أهابك إجلالا وإن كنت في الثرى
مخافة يوم أن يسوءك شاني
وهذه أخرى ألصقت خدها بقبر وهي تبكي قائلة:
خدي يقيك خشونة اللحد
وقليلة لك سيدي خـــــدي
يا ساكن القبر الذي بوفاته
عميت على مسالك الرشد
اسمع أبثك علتي ولعلني
أطفي بذلك حرقة الوجــــد(6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوابل : المطر
(2) الرزء: الفقد والمصيبة
(3) قالية: كارهة
(4) زارية: رافضة ومعترضة
(5) فهر: حجر صغير
(6) الوجد: الحزن