كعادتهم , في مثل هذا الوقت الخصيب .. الطالع رشيماً ندياً من بكارة الأرض .. مجدداً زهو الاخضرار في يابس الأشياء . كعادتهم في كل استنهاض أو قيامة لمدافن التراب وإحياء الرميم .. يسألني برعم الريحان / خالد / وتسألني زهرة الخزامى , وتسألني امرأتي , عن هذا الذي يغيّرني , ويبدلني , ويدخلني في عذوبة الوقت .. كأنهم ماعرفوا, ولا أحسوا , بأنني أنا الرجل المرّمد بكهولته , كسارية مهشمة , ما زلت قادراً على استنساخ أوقاتها في ذاكرتي وقتاً وقتاً , وما زلت ذاك الطفل المشاغب على صدر امه , أعض الحلمة , , وأهبش الثدي , وأنام بالهدهدة على صوت الغناء الشجي , وما زال ذاك التراب المجبول بدموعي يعرفني , ويرأف بقلبي , ويفتح لشفتي نعش أمي .. فأركع بخشوع عابد , ولهفة عاشق وأقرأ فاتحة الاقتراب من روح الطين , المتضوع برائحة جسدها , وكعادتهم دائماً في مثل هذا الوقت المتخمر بصدى الأيام البعيدة قالوا : كيف تقبّل يد أمك في عيدها , وهي النائحة في سرير مجدها الأبدي .. منذ أحد عشر وقتاً من حزن وفراق ؟ أي منذ أن قلت : هنيئاً لكل من ينادي يا أمي .. وترد . قلت : عندما في السماء تضحك شمس آذار .. وتفرد أجنحتها البيضاء أشجار اللوز والدراق , وتنتشر الفراشات الملونة . كأسراب الضوء . وترتجف على فمي ذاكراة الحنين .. كما في قراءة رسائل من نحبّ في أوقات الغياب , أعرف أن يد أمي مبسوطة كشعاع من دفء وبهاء .. في أرجاء بيتنا القديم , فأتقدم نحوها كالمغتسل بمياه الاشتياق , وأبوس كالمنتشي بخمرة سر مكنون , جميع الأشياء التي كانت تلمسها يد أمي .. فساتينها المزركشة , المطوية كالكتب المقدسة في صندوق عرسها الخشبي , مناديلها المعلّقة كصور الأولياء على جدران غرفتها , وأشم, أشم , كعاشق أخضر القلب , رائحة الحندقوق واللمام , المختزن كالعقيق والجمان في ثنايا وسادتها . وكعادتي دائماً أمّد يدي كلص يعرف مقدار التسامح .. وأسرق قطعة بخور من كيسها القماشي المعلّق كتعويزة مباركة فوق سريرها . وفي ذاكرتي أستحضر أوقاتها . كي أراها في أحلامي . وبعدها ألملم أصداء أغانيها من على حيطان الغرف , ومن فوق أجفان النوافذ والأجواء , وأغنيها لأطفالي , بصوت رخيم كما كنت أسمعه من فم أمي , أو كما كان يدخل في قلبي مع كلمات : وتنامي بالخيمة وتنامي بالخيمة لا تخافي من المطر ما بسما غيمه . وكعادة امرأتي في مثل هذا الوقت قالت : أنا ذاهبة إلى بيت اهلي لمعايدة أمي , وسآخذ الأولاد معي , فخذ حريتك , ولا تنتظرنا على الغداء . قلت بحشرجة صوت يبتلع غصة دمع : لا بأس , وأنا أيضاً سأفعل مثلك فأمي مثل أمك تنتظرني في بيتنا القديم .. في المكان الذي اعتدت فيه استنشاق رائحتها , وتقبيل يدها , وغسل روحي الصدئة بتسابيح أدعيتها . قالت امرأتي مشفقة , أو مازحة : ولكن من أين ستأتي بمعجزة نبوية تقوى على استنهاض أمك من قبرها , وتلبسها قميص الحياة من جديد؟ قلت بغموض رجل تعود على فض أختام اسراره بالخفاء : هذا شأني الخاص , فأنا أعرف كيف استحضر أمي , أعرف كيف استحضر أوقاتها , وذكرياتها , وكل ما كان يطّهر أيامنا بوجودها .
فالأم ليست كائناً عادياً , يموت وينسى , مع مرور الوقت , بل هي هذا الوجود الماثل في حياتنا , نراها كلما نظرنا إلى وجوهنا في المرآة .. ونحس بحضورها مع كل دفقة دم تجري في عروقنا . الأم هوية نحملها في ملامحنا , وفي مسام جلودنا , وفي تلافيف عقولنا , في ماهيتنا , في هذا السر المضمخ بالدفء والحنان , الذي نعطيه لاطفالنا , بالفطرة , والعادة , والمشيئة القدرية التي لا ترد . آه كم أشتاق لأن انده بأعلى صوتي يا أمي , وأن أسمعها ترد .