لم أحلم في حياتي أن أخرج وأهتف للحريّة وأنا الّتي كنت أسيرة العادات والتقاليد, عبدة في أغلال الأسرة الّتي كبّلتني على مدى سنوات حياتي الّتي قضيتها في كنَفِهم.
أمورٌ كثيرةٌ كانت من المحرّمات و من ذوات الخطوط الحمراء.. أسئلةٌ كثيرة لم ألقى لها جواباً لأنّني وببساطة لم أطرح السّؤال عنها لأنّني لم أجرؤ على فعل هذا الأمر... أنا الّتي كانت تقول دوماً "نعم" على مضض... فـ "لا" كانت من المحرّمات و من غير اللّائق أن تخالف "بنت الأصول" والفتاة "المْرَبَّاية" ما تربّت و نشأت عليه..."لا" لا تقال للوالدين و إلّا لا يكون برّاً بهما... ولا للإخوة الذّكور لأنّ مجتمعنا الشّرقي يؤثّر الذّكر على الأنثى، فكيف بالأنثى أن تقول "لا" وتفقد بذلك احترام الذّكر وتفقد معها الأنوثة... نعم، الأنوثة: الطاعة والوداعة والجمال وعدم الغضب... كلّها أمورٌ تدخل في صوغ قلادة الأنوثة اللّعينة الّتي لطالما كتمت أنفاسي وهي تلفّ عنقي فتخنقني وتقتل إحساس الحريّة في داخلي.
صورة أخي الأكبر لا تزال عالقةً في مخيّلتي... أذكر يوم تحدث عن مشاركته في إحدى التظاهرات أثناء تناولنا طعام العشاء... كم كان سعيداً وفخوراً وهو يقصّ علينا كيف اجتمعوا وأين مشوا وكيف تفرّقوا فيما بعد لدى وصول الأمن لمكان المظاهرة... يومها قلت له"نِيّالك... جاي عبالي شارِك" توقّف عن مضغ اللّقمة الّتي انتظرتْ طويلاً في فمه وهو يحدّق إليّ بغضب، وما لبث أن مضغ لقمته سريعاً ليفرغ فمه من الطّعام استعداداً لملأه بكلام التّهديد والوعيد "بكسر رجلك إذا بتطلعي بمظاهرة "وليه"... وكأنّ طلب الحريّة حِكراً على الرّجال، أذكر أنّني حاولت أن أناقشه وذكرت كيف كانت النّساء في زمن الرسول يطببن الجرحى وذكرت له "خولة بنت الازور" لكنّ كلماتي لم تطرق مسامعه وهو يشتم ويطالبني بالصّمت بلهجةٍ قاسيةٍ "إخرسي" وهي قليلة نسبيّاً إذا ما قارنتها بالكلمات الّتي تساقطت كوابل الرّصاص المنهمر فيما بعد..."ما عنّا بنات يطلعو بمظاهرات... وين مفكرة حالك عايشة... إنتي بدّك النّاس تقول عنّك "فلتانة"... وهلّم جر... كلماتٌ عابرةٌ من فمٍ منكبلٍ بأصفاد المجتمع الشرقي الّتي ورثها أبّاً عن جد.
أوّل مرة... كانت سهلة... نعم... سهلة... رأيت مظاهرة تتشارك فيها فتيات وشبّان فدخلت بينهم وبدأت أهتف "حريّة للأبد غصبن عنّك يا أسد"... وكأن البركان المشتعل في أعماقي أبَى إلّا أن ينطق بكلمةٍ فُقدت في معجم سيرتي الذّاتية... فأنا كالشّعب الّذي انتفض طلباً لحريّته وكرامته... أجل كرامته... لم أعِشْ يوماً احتضن فيه كرامتي الّتي طالما سفحت عند أقدام المجتمع... بيئتي الّتي نشأت فيها بيئة محافظة, تحافظ فيها على الفتاة من طيش الحريّة ومراهقة الكبرياء وجريمة إثبات الذّات... نعم هي ذاتي من أبحث عنها ما بين الأوراق المتساقطة.
ما منركع إلّا لله... غصّت بها حنجرتي وأنا أذرف دموع الخشوع... ودموع تشييع الخضوع... كيف أحنيت رأسي ومشيت فيما مضى دون أن أرفعه وأنطق بما أريد دون خوف أو وجل... أنا كهذا الشّعب الّذي لم يعرف الحريّة يوماً ولم يذق طعهما... كمّمت أفواهه كما كمّم فمي و أجبِر على الخضوع والاستسلام كما أجبرت أنا... أنا اليوم أخرج من أجله ومن أجلي... أريد لبلدي الحريّة وأريد لنفسي التّحرّر من عبوديّة العُرف... أريد له السّلام وأريد لنفسي السّلام الدّاخلي ليدفأ ضلوعاً لفّها البرد لسنواتٍ دون أن تجد ملجأً دافئاً تأوي إليه... الآن فقط بدأت أشعر بانتمائي لبني البشر... الآن فقط أستطيع القول بأنّني "حرّة" فأنا لم أخرج لأهاجم الظلم والفساد والقهر الّذي أعيا وطني فحسب لكنّي كذلك خرجت من" قوقعة متلازمة المنزل " ومن "جدران الأنوثة العالية" لأكسر كلّ ما أعاق حركتي لسنواتٍ و جعل سيري في الحياة حبواً...
بالأمس خرجت... واليوم خرجت وغداً سأخرج، و مع كلّ خروجٍ في تظاهرةٍ فأنا أكسر حاجز الخوف بسندان إرادتي... لن أعود أدراجي لعهد الرّق فيما أرى الحريّة تفتح ذراعيها مناديةً لي بأعلى صوتها... لا يمكنك أن تطلبي الحريّة لغيرك ما لم تكوني حرّة... ففاقد الشّيء لا يعطه.
مدونة شام
أنا ثائرة
- التفاصيل