عبد الحميد ضحا
قتلوا أمي بخنجر مسموم، خانوها، دسَّ الأعداءُ الخونةَ بين أبنائها؛ ليظهروا أنهم حُماتها الأشاوس. سِرتُ أَهيم في الطُّرقات لا أَعقِل لي طريقًا، وكذلك إخوتي، بعضُهم صار مِن جنود الخوَنة؛ خوفًا من سُيوفهم، أو طمعًا في عطاياهم، وجلُّهم صاروا مثلي -قبل أن أُفِيق مِن أثر الصدمة- هائمين مُنكسِرين، خائفين مِن الأعداء!
كنتُ دائمًا أفكِّر: كيف استطاعوا أن يَطمِسوا ضوء الشمس، وأن يَقتلوا البدر في كَبِد السماء؟!
كلما أشرق بدر في لَيْلنا تآمَروا عليه، وجعلوا عِرْضَه ودماءه كَلأً مُستباحًا، فقط يُطلقون عليه كلابَهم التي لا تَكِلُّ ولا تَمَلُّ مِن النُّباح؛ حتى يَطمئنوا أنهم دنَّسوا عِرضه وسفكوا شَرَفه!
وهكذا صارت دماء إخوتي بعد موت أمي رخيصةً لا تُساوي شيئًا. كنتُ أتذكَّر قيمةَ دمائنا حين حياتها، كان كل ما تَفعله أن تُنادي على إخوتي: أدرِكوا أخاكم أو أختَكم، جاهدوا الأعداء، {إنْ تنصروا اللهَ يَنصرْكم ويُثبِّتْ أقدامَكم}؛ فيَكسو الأرضَ اللهيبُ، ويدوِّي صليل السيوف كالرَّعد الرهيب، فتَعلو هاماتُنا، ويَذِل الأعداء مهما كانت قوتهم؛ فلم نكن نَعرف حين النداء إلا شيئَين: النصر أو الشهادة.

كيف جعل الخونةُ بعد كل هذا العزِّ والفخر مجرَّد ذِكْر أمي سُبَّةً وعيبًا؟! أهي الحماقة، أم الجهل، أم الخيانة؟! لا بدَّ أنها تَختلِف الأسباب، ولكنها تَجتمع في كثير منهم.

ولكن بعد كل هذا الزمن، فوجئتُ أنا وإخوتي، ومَن خانوا وباعوا، ومَن هاموا وهانوا أن كل بدر مِن إخوتي دنَّسوا شرَفه ما زال نجمًا ساطعًا في السماء، وأن كل القيم التي بثَّتها فينا أمي -وظنَّ الخوَنة وظننَّا معهم أنهم قتلوها- ما زالت حيَّةً تَنْبِض، بل ازدادت بريقًا ولَمَعانًا، اكتَشفنا أن كلَّ ما فعله الأعداء والخوَنة قد ذهَب جُفاءً كالزَّبَد.

فتجمَّعنا أنا وإخوتي، وعُدنا إلى قَبْر أمي لنُحْيِيَها، نُحيي العزة والكرامة والإيمان، موقِنين أن أمي ستعود، وهأنذا عائد مِن حيث أتيتُ!

JoomShaper