لها أون لاين
في ليلة زفافها إلى "صلة بن أشيم" التابعي الجليل، جاء ابن أخيه، فمضى به، وألبسه أجمل الثياب، ثم أدخله عليها في بيت يضوع طيبا، وقد هُيئ كأجمل ما تكون البيوت.
ولما صار معها ألقى عليها السلام، ثم قام يصلي، فقامت تصلي معه، ولم يزالا يصليان حتى وافهما الفجر، وتنفس الصبح، ونسيا أنهما في ليلة الفرح.
إنها أم الصهباء معاذة بنت عبدالله العدوية البصرية، واحدة من التابعيات ذوات الفضل والمكانة. نشأت قريبة من الصحابة الكرام، تنهل من معين علمهم الذي أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غريبا على معاذة التي تخرجت في مدرسة أم المؤمنين عائشة، وعلي بن أبي طالب، وهشام بن عامر، رضي الله عنهم، والتي رأتهم وروت عنهم.
لم يكن غريبا أن هذا شأنها في العبادة، فلا تكاد تخلو إلى نفسها إلا وهي على موعد مع الصلاة، فقد كانت تحيي الليل كله بالتهجد والتسبيح، وكانت تقرأ من القرآن كل ليلة، فإذا جاء النهار قالت هذا يومي الذي أموت فيه؛ فما تنام، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فلا تنام حتى تصبح، فإذا غلبها النوم، قامت فجالت في الدار تعاتب نفسها، ثم لا تزال إلى الصباح تخاف الموت على غفلة ونوم.

يوسف إسماعيل سليمان
تركها سيدنا إبراهيم في الصحراء، تلبية لأمر جاءه من الله، وكان المكان واديًا غير ذي زرع. هناك في تلك البرية المقفرة المجدبة ترك زوجته هاجر وفلذة كبده إسماعيل وانصرف.
نظرت هاجر حولها في ذهول، ثم نادته قائلة: كيف تتركنا في هذه البرية المجدبة.. لا ماء.. لا زرع.. لا إنسان.. وحوش البرية ستفترسنا.. حر الشمس سيكوينا.. ارأف بنا أيها الرجل.
إبراهيم يبتعد صامتًا لا يجيب.. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهبُ وتتركُنا بهذا الوادي الذِي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آللَّهُ الذِي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذن لا  يضيعنا. ثم رجعتْ.
ظلت هاجر وحيدة مع ابنها في تلك الصحراء القاحلة، ونفد ما معهما من الزاد، وراح إسماعيل يبكي طلبًا للماء. ومن أين الماء في مثل هذه البقعة؟
استمر إسماعيل يبكي، ويتحول بكاؤه إلى أنين يوجع قلب أمه، ويمزقه ألمًا وشفقة. وهاجر في لهفة تنظر بعينين ملؤهما الدموع مرة على رضيعها الظمآن، ومرة على أرجاء المكان تمسحه بعينيها استكشافًا؛ لعل بارقة أمل تظهر فتلوذ بها وتتصبر عما هي فيه، لكن نظراتها ما أسعفتها بشيء، وإنما ارتد إليها طرفها كليلاً حسيرًا.

يوسف إسماعيل سليمان
زخرت مسيرة الدعوة الإسلامية منذ القدم بنماذج نسائية رائعة مبهرة، أسهمت في نمو هذه الدعوة، بل ونضجها واشتداد عودها وتطورها على امتداد العصور، بل وفي أحلك الأوقات، حتى إنه لتتضاءل هامات الجبال أمام هاماتِهن، وتتصاغر عظائم الأمور أمام جهادهن وفطنتهن وعزمهن وتدبيرهن.
أقدم بعضًا من هذه النماذج في الصفحات التالية، لتكون بمثابة نماذج مثلى في التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والثبات والإباء، إقرارًا بفضلهن، وإشادة بدورهن، ودعوةً لاحتذائهن، واستكمالاً لمسيرتهن على خطًى تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
حلقتنا الثالثة مع خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
إنها أم المؤمنين خديجة التي أعطت من نفسها درسًا بليغًا لنساء المؤمنات، في وقوف المرأة إلى جوار زوجها في المواقف الصعبة، والأزمات الخطيرة بالتثبيت والتأييد والمؤازرة. تروي لنا عنها أمُّ المؤمنين عائشة قائلة: أول ما بدئ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان يخلو بغار حراء حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ، قال: مَا أَنَا بِقَارئٍ، قال: فأًخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال: اقرأ. قلت: مَا أَنَا بِقَارئٍ.. فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(..."[العلق:1]، فرجع بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) فقال: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل.. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ([1])

ياسر محمود
هي أروى بنت عبد المطلب بن هاشم القرشية الهاشمية، عمة رسول الله صلى الله عليه، أخت صفية بنت عبد المطلب.
تزوجت أروى من عمير بن وهب بن عبد بن قصي، وولدت له: طليب، وبعد وفاته تزوجت كلدة بن هاشم بن عبد مناف، وولدت له فاطمة.
إسلامها
أسلم ابنها طليب بن عمير في دار الأرقم، ثم خرج على أمه فقال: تبعت محمدًا وأسلمت لله رب العالمين، فقالت أمه: إن أحق من وازرت ومن عاضدت ابن خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لتبعناه ولذببنا عنه، قال: يا أماه، وما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه فقد أسلم أخوك حمزة، فقالت: أنظر ما يصنع أخواتي ثم أكون إحداهن، قال: أسألك بالله إلا أتيته فسلمت عليه وصدقته وشهدت أن لا إله إلا الله، قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

الوعي الشبابي
كم نحن في حاجة للتعرف على نساء قل نظيرهن في زماننا هذا حتى أصبح الحديث عن أوصافهن ضربا من الجنون والخيال وكلاما لا يصدقه العقال. لذا، تعالوا بنا نستشرف من مدرسة الصحابيات، سيرة نساء جليلات عظيمات، عرفن بالصدق والتصدق والمثابرة والاجتهاد، زاحمن، بل سبقن الرجال علما وتعلما، صوما وتبتلا، إيمانا وفروسية.
فاكهة مجلسنا اليوم الصحابية الجليلة، النوار بنت مالك، امرأة أنصارية من بني النجار، نموذج للأم المربية الصالحة، أم زيد ابن ثابت كاتب الوحي وإمام أهل المدينة في العلم وقراءة القرآن، والذي أسلم في سن الحادية عشرة، والذي تعلم لغة اليهود بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأتقنها في فترة قصيرة، وجمع الوحي الكريم من صدور الحافظين بتكليف من الخليفة سيدنا أبو بكر الصديق.
تميزت النوار بالعديد من صفات البر والصلاح والاجتهاد في العبادة، فكانت خير ناصرة لدين الله وللحِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففاح عطر فضلها في ديار الإسلام، حرصت على صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم  والجهاد إلى جانبه ووهبت كل ما في وسعها لتحقيق ذلك، وهاهي السنة الثانية للهجرة حيث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستعد لغزوة بدر، فترسل النوار زيدا الصغير ليشارك جنبا إلى جنب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدنا الغلام الصغير من الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وقال: جعلت فداك يا رسول، إئذن لي أن أكون معك وأجاهد أعداء الله، لكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رده لصغر سنه وعدم قدرته على الجهاد، فعادت النوار مع طفلها والحزن يعتصر قلبها بعد أن تبدد حلمها في أن يحظى ابنها بشرف المشاركة في أول غزوة في الإسلام.

JoomShaper