لا أجد عبارات أو عَبَرات أواسي بها أطفال سوريا، سوى إشاحة وجهي عنهم حياء وخجلا، فنظرة واحدة في وجه طفل سوري مزقت الحرب زوايا طفولته المبعثرة، كفيلة بأن تفعل في ضمائرنا على اختلاف أصناف أفاعليها مهما كابرنا على جراحنا وتصنعنا وحاولنا استبدال قلوبنا بقطع من صخر.

نظرة واحدة من أحداق ذلك الطفل السوري كفيلة بأن تحرق ضمائرنا الحية، وتسلب النائمة منها حلاوة مناماتها وتطوي سجل طعم الحياة الهنيئة من أيامها إلى الأبد، وهي عين النظرة التي بإمكانها أن تكتب في سجالات الضمائر الميتة عبارات الشكوى وتزرع بذور الندم فيها ليحصد تجار الموت ثماره عاجلا أم آجلا.

فمن يجرؤ منا أن يتفرّس في وجه طفل سوري اليوم بثبات وثقة ويطيل النظر فيه، فنحن أعجز من أن نبادله هذه النظرة التي ملؤها التقريع واللوم والتأنيب والخيبة، بعد أن تزاوجت وانصهرت في أحداقه كل عبارات هذا المعجم المشبع بالألم، وبعد أن بتنا على يقين أنه قادر أن يقذف به في وجوهنا بنظرة واحدة تختصر كل القول وتسكت العبارات وتمحو ملامح الوجوه وتذيب الضمائر الحية وتطرد الميتة منها مهرولة نحو الخراب. 

أسيمة صالح – عنب بلدي
مع تفاقم سوء الحالة المعيشية للكثير من العائلات السورية نتيجة الغلاء الفاحش وفقدان المعيل بين معتقل وشهيد ومصاب، اضطرت العديد من العائلات للدفع بأطفالها إلى العمل، ملقين بذلك عليهم مسؤوليات أكبر منهم، ناهيك عن حرمانهم أبسط حقوقهم في معظم الحالات.

عنب بلدي قامت بجولة في إحدى مناطق الريف الدمشقي التي تعج بسكانها الأصليين وأضعافهم من النازحين من مختلف المناطق المحيطة، وتابعت خلال الجولة عددًا من الأطفال العاملين، والتقت بعضًا منهم.

عامر البالغ من العمر عشر سنوات وهو من سكان المدينة، يعمل على «بسطة» يملكها والده في السوق الرئيسي للمدينة؛ يبدأ عمله عند العاشرة صباحًا وينتهي مع انتهاء الحركة في السوق تبعًا للظروف الأمنية ولمواسم الشراء. عامر الذي ادعى بأنه يذهب إلى المدرسة، على عكس ما لاحظناه على مدى أيام، بدا طوال الوقت مترقبًا لنظرات والده الجالس مع بعض أصحاب المحال القريبة؛ فوالد عامر يسارع إلى توبيخه أمام كل من في السوق في حال ابتعد عن «البسطة»، أو انشغل عن أخته ذات الخمسة أعوام التي غالبًا ما ترافقهم إلى العمل، أو تأخر في تلبية الزبائن.

نشرت صحيفة "الاندنبدنت" البريطانية مقالاً لروبرت فيسك بعنوان "الهجرة الجماعية في الشرق الأوسط ليست بالأمر الجديد إلا أن ضخامة الأعداد سيكون لها تأثيرها المدمر على المنطقة".وتساءل فيسك عن حجم التحركات السكانية الهائلة في الشرق الأوسط، لافتا الى أنه "في 1970 و1980 تدفق الأفغان بالملايين عبر الحدود الباكستانية والإيرانية كما فر عشرات الآلاف من اللبنانيين خلال الحرب الأهلية إلى سوريا، كما فر عشرات الآلاف من الكويتيين في عام 1990 هرباً من غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، إضافة الى فرار ملايين العراقيين من بيوتهم أثناء الغزو الأمريكي عام 2003".

د. محمود نديم نحاس
عندما أقرأ في كتب التاريخ عن عصور الانحطاط وتغلب التتار والمغول على بلادنا، وكيفية معاملتهم الفظة للناس، ربما أصفها في نفسي بأنها مبالغات من أجل إثبات نظرية سوء معاملة الغزاة، أو الحال الصعبة التي وصل إليها الناس في تلك الأزمان.

لكننا اليوم صرنا نرى الطغيان رأي العين، فالبث المباشر من موقع الحدث، سواء عبر شاشات التلفاز أو عبر الإنترنت وشاشات الحاسوب والهواتف الذكية، يعطينا الصورة أوضح ما تكون، دون مبالغات أو إضافات.

وما يجري في سوريا للشعب المسكين يجعلك تبكي ألماً وحرقة، ربما أكثر مما بكى الناس عندما سقطت البلاد بيد التتار والمغول. فقد ذكرت مصادر إخبارية أن تقريراً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أقر بأن أكثر من نصف سكان ريف دمشق محاصَرون، إضافة إلى أكثر من ثلاثمائة ألف آخرين في محافظة حمص. وكما قال مسؤول أمني لدى النظام: هي حملة (الجوع حتى الركوع). فحواجز التفتيش تمنع تهريب حتى الخبز أو حليب الأطفال أو الدواء إلى المناطق المحاصَرة.

كانت الساعة الرابعة صباحاً في ساحة مركز رباع السرحان لتسجيل اللاجئين بالقرب من الحدود بين الأردن وسوريا، وعلى الجانب الآخر من الساحة القاحلة المظلمة رأيت صفاً طويلاً من اللاجئين الذين عبروا الحدود تحت جنح الظلام، في انتظار تسجيلهم. وكسا هؤلاء اللاجئون غبار السفر، وارتسمت على وجوههم ملامح الصمت الرهيب، حتى الأطفال بدا وكأنهم فاقدون الوعي من أثر الخوف في رحلتهم عبر الحدود الأردنية في غسق الليل. وكانت على ظهور اللاجئين حقائب وأمتعة بالية مربوطة بحبال.

ومع دخول الحرب الأهلية المستعرة في سوريا منتصف عامه الثاني، من المؤسف أن قصة هؤلاء اللاجئين متطابقة، إذ أن ما يربو على ثلث الشعب السوري هجَروا منازلهم التي كانوا يعيشون فيها قبل الحرب، ولم يلتحق أطفالهم بالمدارس، والآباء لا يعملون.

وهناك ما يزيد على مليوني لاجئ فرُّوا عبر الحدود إلى دول مجاورة، خصوصاً الأردن ولبنان، في حين أن أكثر من أربعة ملايين شخص هُجّروا داخل البلاد، بينمايتم توزيع كميات ضئيلة من المساعدات الغذائية والطبية بصورة غير منتظمة.

JoomShaper